دعوى قدم المادّة في هذا العالم
إنّ العالم قديم أزليّ واجب الوجود بذاته، وأنّه لم يزل في حركة دائبة، وتبّدل في الصّورة.
وببيان آخر: ما نراه من الحوادث المتجدّدة إنّما هو في حقيقته تبّدل في صورة المادّة وهيئتها، معّ كون المادّة بذاتها أزليّة واجبة الوجود غير حادثة،
ولنضرب لذلك مثلاً: الماء الذّي في البحار، حيث يتحول إلى بخار وسحاب، ثمّ يتفاعل في الجوّ، فينزل ماءً بصورة المطر، وقدّ يتجمّد في أعلى الجبال ثمّ يذوب وينساب ماءً في الأنهار، ليمدّ حياة الإنسان والحيوان والنبات، ثمّ ينزل في بطن الأرض، ليرجع إلى البحر، أو يتحلّل کيمياويّاً إلى عناصره، ويتفاعل بعد ذلك ليعود ماء کما کان، ثمّ يعود في دورته ثانية .. وثالثا … وهكذا إلى ما لا نهاية.
والجوّاب عن هذه الدعوى من وجهين:
بطلان دعوى أزليّة المادّة
الأوّل: أنّه لو تمّ تفسير الكون بحركة المادّة وتحوّلها، من دون أن يفنى بعضها، ويتجدّد غيره خلفاً عنه، إلّا أنّه لا مجال للبناء على أزليّة المادّة واستغنائها عن العلّة والمؤثّر، لأنّ المادّة التّي يفترض كونها أزليّة واجبة الوجود إن كانت ذات هيئة وصورة استحال انفکاکها عن هيئتها وصورتها، وتعاقب الهيئات والصور عليها، لأنّ هيئتها وصورتها الأولى أزليّة واجبة مثلها، وقدّ سبق أنّ الأزليّ الواجب خالد لا يرتفع.
وإن كانت تلك المادة مجردة عن الهيئة والصورة لزم المحال..
أوّلاً: لأنّ المادّة لا تنفك عن الهيئة والصّورة، ويمتنع تجرّدها عنها، كما هو ظاهر.
وثانيا: لأنّه لو أمكن تجرّدها عن الهيئة والصورة لكان تجرّدها واجباً مثلها، وحينئذٍ يستحيل تخلّفه عنها وتصورها بعد ذلك بالصّور المختلفة، لما سبق من أنّ الأزليّ الواجب الوجود خالد.
الثّاني: إنّه لو أمكن تجرّد المادّة في الأزل عن الهيئات والصور، ثمّ عروضها عليها بعد ذلك، فتصورها بالصّور المختلفة المتعاقبة يحتاج إلى علّة وسبب مؤثّر فيها، يقهرها ويخضعها لتقبّل الهيئات والصّور، وتبادلها عليها، وحينئذٍ فما هو هذا السّبب المؤثّر هل هو أزليّ واجب الوجود أو حادث ممكن؟ فإن كان أزليّاً واجباً فهو الخالق المدبّر، وتمّ المدّعي.
وإن كان ممكناً حادثاً عاد الحديث إليه، لأنّه يحتاج إلى علّة حينئذٍ، ويمتنع تسلسل علّله إلى ما لا نهاية، بل لابدّ أن ينتهي بالآخرة إلى علّة واجبة الوجود، کما سبق.
وأمّا دعوى: أنّ المادّة إذا أمكن أن تكون مجرّدة عن الصورة أزلاً، ثمّ تعرضها الصّورة، فهي التّي صورت نفسها، من دون حاجة إلى مؤثّر فيها خارج عنها.
فلا أظنّ عاقلاً يرضى بها، لأنّ المادّة بالوجدان صمّاء بكماء لا تعقل، فكيف يصدر منها ذلك؟! وهل يرضى العاقل لنفسه إذا رأى كتلة من الطّين قدّ صارت تمثالاً شاخصاً، أو قطعة من اللّبن متناسقة، أن يقول: إنّها حوّلت نفسها إلى ذلك من دون أن تخضع لصنعة صانع ؟!.
وإلى هذا كلّه يرجع ما اختصره أهل المعقول من الاستدلال على حدوث العالم بقولهم المشهور: العالم متغيّر، وكل متغيّر حادث، فالعالم حادث.
والحاصل: إنّ قضيّة حدوث العالم، واحتياجه إلى العلّة المؤثّرة الواجبة الوجود، والمستغنية عن العلّة، من القضايا العقلية الارتكازيّة التّي يدركها النّاس بفطرتهم، ولا يستطيعون التجرّد عنها مهما کابر فيها المكابر، وتعصّب ضدّها المعاند، وإذا خفي على العامة وجه الاستدلال عليها استغنوا بالارتكاز المذكور في البناء عليها.
منقول من كتاب أصول العقيدة للسيد محمد سعيد الحكيم