أَفضليَّة الإِمام عليٍّ عليه السَّلام على الصَّحابة
يجب أَن يكون الإِمام أَفضل من رعيته؛ لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلًا وسمعًا، لقوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ﴾ (1). ويدخل في ذلك كونه: أَعلم، وأَشجع، وغيره.
وأَنَّ عليًّا عليه السَّلام كان أَفضل الصَّحابة، فيكون هو الإِمام.
أَمَّا المقدِّمة الكبرى، فإِذا ثبت أَنَّه أَفضل، كان أَولى من غيره، لما تقدَّم.
وأَمَّا الصغرى، فمن وجوه:
الوجه الأَوَّل: أَنَّه جمع الفضائل النَّفسانيَّة كالعلم وغيره، ويدلل عليه قوله عليه السَّلام: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَنَا شَابٌّ حَدِيثُ السِّنِّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ بَعَثَتْنِي إِلَى قَوْمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَحْدَاثٌ، وَأَنَا شَابٌّ حَدِيثُ السِّنِّ قَالَ: إِنَّ اللهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ، وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ، فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ» (2)، قول عمر بن الخطَّاب: «أَقضانا عليٌّ» (3)، والقضاء يستلزم العلم والدِّين لأَنَّ القضاء يفتقر إِلى جميع العلوم. فإِذا كان أَقضى من غيره، وجب أَن يكون أَعلم منه.
الوجه الثَّاني: قوله صلَّى الله عليه وآله: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِ الْبَابَ» (4). وقوله: «أَنَا مَدِينَةُ الْحِكْمَةِ , وَعَلِيٌّ بَابُهَا» (5). وقوله صلَّى الله عليه وآله: «يَا فَاطِمَةُ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنِّي زَوَّجْتُكِ أَقْدَمَهُمْ سِلْمًا، وَأَكْثَرَهُمْ عِلْمًا وَأَفْضَلَهُمْ حِلْمًا» (6), وقوله صلى الله عليه وآله: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُر إِلَى آدَمَ في عِلْمِهِ وَإِلَى نُوحٍ في فَهمِهِ، وإلَى إِبْرَاهِيمَ في خِلتِهِ فَلْيَنْظُر إِلَى عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِب» (7).
وقد ذكر المفسِّرون أَنَّ قوله: ﴿وتَعِيَها أُذُنْ واعِيَةٌ﴾ (8)، المراد به عليٌّ عليه السَّلام (9).
الوجه الثَّالث: أَنَّه عليه السَّلام في غاية الحرص على تحصيل المعارف واقتناء الفضائل والمتابعة للرَّسول، فكان شديد الملازمة له منذ صباه إِلى موت النَّبيِّ بحيث لا ينفكُّ عنه في أَكثر الأَوقات. والنَّبيُّ كان شديد الحرص على التَّكميل له. ومع حصول القابل وتحقُّق المؤثِّر وانتفاء الموانع يحصل التَّأْثير والكمال على أَبلغ أَحواله. ومن المعلوم بالضَّرورة، أَنَّ مثل التَّلَّميذ الملازم هذه الملازمة لهذا المعلِّم الكامل، مع شدَّة حرص المعلِّم على التَّعليم، وحرص المتعلِّم على التَّعلم، فإِنَّ التَّلَّميذ يكون في غاية الكمال ونهاية الفضل والعلم. وهذا برهانٌ قطعيٌّ لا خلاف فيه.
الوجه الرَّابع: أَنَّه أَعلم لأَنَّ الصَّحابة كانوا يرجعون إِليه في الأَحكام ويأْخذون عنه الفتاوى، ويقلَّدونه، ويرجعون عن اجتهادهم إِذا خالفهم، وأَخطأَ أَكثرهم في الأَحكام، ودلَّهم على زللهم، فرجعوا إِليه، كما وأَنَّهم كانوا يلجئون إِليه في حلِّ المشكِّلات (10)، كقول عمر: «لَوْلَا عَلِيٌّ لَهَلَكَ عُمَرُ» (11)، وقوله: «لَا أَبْقَانِي اللَّهُ لِمُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ» (12)
الوجه الخامس: أَنَّه عليه السَّلام جمع الفضائل البدنيَّة كالشُّجاعة وغير ذلك ما لم يحصل لأَحدٍ من الصَّحابة. فكان أَشجَّع الصَّحابة، وأَعظمهم بلاءً في الحروب، حتَّى أَنَّ الفتوح بأَجمعها كانت على يديه، ولم يبارزه أَحدٌ إِلَّا قتله، فلم يبلغ أَحدٌ درجته في ذلك. ووقائعه في الحروب مشهورةٌ لا تحصى كثرةً ، وقد نُقل عنه بالتَّواتر، كيوم بدرٍ، وأُحدٍ، والأَحزاب، وخيبر، وحُنينٍ، وغيرهنَّ. ولم يسبقه أَحدٌ تقدّمه ، ولا لحقه من تأْخر عنه. وإِذا كان أَكثر جهادًا كان أَفضل من غيره.
وقد ورد في الصَّحيح عن الإِمام الحسن عليه السَّلام:«لقد فارَقَكم رَجُلٌ بالأمْسِ لم يَسبِقْهُ الأوَّلونَ بِعِلْمٍ، ولا يُدرِكُهُ الآخِرونَ، كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَبعَثُهُ بالرَّايةِ، جِبريلُ عن يَمينِهِ، وميكائيلُ عن شِمالِهِ، لا يَنصَرِفُ حتى يُفتَحَ له» (13).
فمّما تقدَّم ثبت أَنَّ عليًّا عليه السَّلام كان أَعلم الصَّحابة وأَشجَّعهم، و هذا المقصود من الإِمامة؛ لأَنَّ المقصود من الإِمامة إِنَّما هو حمل النَّاس على الحقِّ، وذلك إِنَّما يكون بتعليمهم الحقّ وفعلهم له. وذلك يستدعي العلم، وبقهرهم على فعله عند تركهم له وذلك إِنَّما يكون بالشَّجاعة. فإِذا تمَّ الوصفين لشخصٍ استحقَّ منصب الإِمامة. ولا شكَّ في بلوغ عليِّ عليه السَّلام هذين الوصفين مبلغًا لم يلحقه أَحدٌ من الصَّحابة فيه، فيكون أَولى بالإِمامة.
__________________________
(1) سورة يونس عليه السلام: آية 35.
(٢) السنَّن الكبرى للنَّسائيّ: ج ٧، ص ٤٢١، حديث ٨٣٦٣. وسنن أَبي داود: ج ٣، ص ٣٠١، ح ٣٥٨٢. وسنن ابن ماجه: ج ٢، ص ٧٧٤، ح ٢٣١٠؛ وعلَّق عليه الأَلبانيّ: صحيح.
(3) صحيح البخاري: ح ٤٤٨١.
(٤) المستدرك على الصَّحيحين للحاكم النَّيسابوريّ: ج ٦، ص ٥٠، ح ٤٦٨٦؛ وقال عنه: هذا حديثٌ صحيح الإِسناد. وقد أَخرجه بعدَّة طرقٍ. وقال عنه السَّخاويّ: حسنٌ. كما في المقاصد الحسنة: ج ١، ص ٥٤٥، ح ١٩١. وقال العلائيّ: الحديث ينتهي بمجموع طريقي أَبي معاوية وشريكٍ إِلى درجة الحسن المحتج به. كما في النَّقد الصَّحيح لما اعترض من أَحاديث المصابيح: ص ٥٥. كما وأَنَّ ابن حجر العسقلانيَّ حسَّنه انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا عليّ القاريّ: ج ٩، ص ٩٤٠، ح ٦٠٩٦. وتجد أَبو المعالي الجوينيّ الملقَّب بإِمام الحرمين يعتمد عليه كما في كتابه التَّلخيص في أُصول الفقه: ج ٣، ص ١٢٦، برقم ١٥٣٤.
(٥) تهذيب الآثار للطَّبريّ: في مسند عليّ؛ ص ١٠٤، ح ١٧٢. والشَّريعة للآجرِّيّ: ج ٤، ص ٢٠٦٩، ح ١٥٥٠ و ١٥٥١. وحلِّيَّة الأَولياء لأَبي نعيم الأَصبهانيّ: ج ١، ص ٦٤. وممَّن اعتمد على هذين الحديثين عبد الحقِّ الدَّهلويّ انظر لمعات التَّنقيح في شرح مشكاة المصابيح: ج ٩، ص ٦٥٦ و ٦٦٠، ح ٦٠٩٦.
(٦) مسند أَحمد: ج ٣٣، ص ٤٢٢، ح ٢٠٣٠٧. وفضائل الصَّحابة لأَحمد بن حنبلٍ: ج ٢، ص ٧٦٤، ح ١٣٤٦. وتاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر: ج ٤٢، ص ١٣١-١٣٣.
(٧) فضائل الخلفاء الرَّاشدين للحافظ أَبي نعيم الأَصبهانيّ: ص ٥٩، ح ٤٢؛ وقال عنه: فضيلةٌ لأَمير المؤمنين عليٍّ لم يشرِّكه فيها أَحدٌ. وشرح مذاهب أَهل السُّنَّة للحافظ ابن شاهين: ص ١٥١، ح ١٠٧؛ وقال عنه: تفرَّد عليٌّ بهذه الفضيلة، لم يشرِّكه فيها أَحدٌ.
(٨) سورة الحاقَّة: آية ١٢.
(٩) يراجع تفسير الطَّبريِّ، والثَّعلبيِّ، ومكِّيِّ بن أَبي طالبٍ، وأَبي حيَّان، وابن عطيَّة، والسَّمعانيِّ، والإِيجيِّ، والماورديِّ، والفخر الرَّازيِّ، والقرطبيِّ، والآلوسيِّ، وابن جزيِّ، والسُّيوطيِّ، وصديق حسن خان.
(10) منها: «أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِامْرَأَةٍ جَهَدَهَا الْعَطَشُ، فَمَرَّتْ عَلَى رَاعٍ فَاسْتَسْقَتْ فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إِلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، فَشَاوَرَ النَّاسَ فِي رَجْمِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ مُضْطَرَّةٌ، أَرَى أَنْ نُخْلِيَ سَبِيلَهَا، فَفَعَلَ». كما في سنن البيهقي: جزء ٨، صفحة ٤١٤، حديث ١٧٠٥٠. وقال الأَلباني: إِسنادٌ جيِّدٌ رجاله ثقاتٌ. كما في إِرواء الغليل: جزء ٧، صفحة ٣٤١، حديث ٢٣١٣. ويراجع الطُّرق الحكميَّة في السِّياسة الشَّرعيَّة لإِبن القيِّم الجوزيَّة فقد ذكر فيه جملةً من قضاياه عليه السَّلام.
(11) تأْويل مختلف الحديث لابن قتيبة الدِّينوري: صفحة ٢٤١. والعواصم من القواصم لأَبي بكرٍ ابن العربي: صفحة ١٩٤. و شرح الإِلمام بأَحاديث الأَحكام لابن دقيق العيد: جزء ٣، صفحة ٧٤. والإِعلام بفوائد عمدة الأَحكام لابن الملقَّن: جزء ١، صفحة ٥٥٦.
(12) تهذيب التَّهذيب لابن حجر العسقلاني: جزء ٩، صفحة ٤٤٤، التَّرجمة ٤٩٩٨. ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملاَّ عليِّ القاري: جزء ٩، صفحة ٩٤٠، حديث ٦٠٩٦. والفتح الرَّبَّانيُّ من فتاوى الإِمام الشَّوكاني للشَّوكاني: جزء ٩، صفحة ٤٧٥٦.
(13) مسند أَحمد، بتخريج أَحمد شاكر: ٣/١٦٨، حديث ١٧١٩؛ وقال: إِسناده صحيحٌ. والسُّنن الكبرى للنَّسائي: حديث ٨٤٠٨. وصحيح ابن حبَّان: حديث ٦٩٣٦.