الأدلّة العقليّة على وجود الله كثيرة وفيرة بتناسب كّل ذّي بصر وبصيرة، مضافاً إلى برهان العلّة، ودليل الحكمة على وجود الله الخالق وهو: (كلّما بالغير – وهي الممکنات – لابدّ وأن ينتهي إلى ما بالذّات. وهو واجب الوجود – ليكون الذّاتي علّة العلل وخالق المخلوقات .. وإلّا لزم التّسلسل وهو محال).
فيثبت وجود الذّاتي الواجب، الخالق لمن سواه، وليس المستحق لذلك إلّا الله (جلّ جلاله وعمّ نواله).
والأدلّة العقلية الوجدانية الواضحة على وجود الخالق تعالی کثيرة جدّاً – كما قلنا ۔ نختار منها البراهين الخمسة التّالية:
الأول: برهان النّظم
أوضح الأدلّة على إثبات الله تعالى الذّي يحكم به العقل، ويقضي به الوجدان، ويحسّه كّل إنسان، هو دليل النّظم والتّدبير.
فالجميع يرى العالم بسماواته وأراضيه، وما بينهما من مخلوقاته ورواسيه من المجرة إلى النّملة. في خلقة التّكريم وسَيْر التّنظيم وتناسب عظيم.
فالإنسان نراه بأحسن كيفية، والحيوان نراه بالمواهب الفطرية والنّباتات والأشجار والأزهار والأعشاب نراها ذات المناظر البهية والخصائص النّفعية، وكذلك غيرها من الموجودات الأخرى التّي لا تعدّ ولا تحصى فيما بين السّماء إلى أطباق الثّرى.
نرى أجزاءها وجزئيّاتها مخلوقة بأحسن نظم، وأتقن تدبير، وأحسن صنع، وأبدع تصویر.
ومن المعلوم بالبداهة لكّل كبير وصغير، ولكّل ذي عقل وإحساس أن الإهمال لا يأتي بالصّواب والخطأ لا يأتي بدقيق الحساب، والاتّفاق لا يأتي بهذا العجب العجاب.
فيحكم العقل بالصّراحة، ويذعن الوجدان بالبداهة أنّه لابدّ لهذا التّدبير من مدبّر، ولهذا التّنظيم من منظّم، ولهذا السير الحكيم من محكّم.
ويدرك جميع أولي الألباب أنّه لابدّ لهذا النّظام الدقيق من خالق حکیم، ولابدّ لهذا التدبير العميق من مدبّر عليم، خلقها وقدّرها وأدام بقاءها، وأحسن خلقها وتدبيرها، وهو الله تعالى شأنه وجلّت قدرته.
فوجود الخالق ممّا يدرك بالبداهة ويحسّ بكّل يقين.
الثاني: امتناع الصّدفة
فإنّا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم بما فيه من الخليقة المنتظمة، فلابدّ وأن نقول بأنّ الصّدفة هي التّي أوجدتها أو أنّ الطّبيعة هي التّي خلقتها ..
بأن تكون هذه المجموعات الكبيرة الدّقيقة الضّخمة، في هذا العالم الكبير وجدت بنحو الصّدفة وتحقّقت بنحو المصادفة.
لكن من الواضح أنّه لا يقبل حتّى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللّامتناهية وجدت بنفسها بالصّدفة العمياء أو بالطّبيعة الصّمّاء..
بل حتّى عقل المادّيّين والطّبيعيّين – كما تلاحظه في حياتهم – لا يقبل الصّدفة. لذلك تراهم يبحثون عن سبب جريمة صغيرة وقعت في بلادهم وفوجئوا بها في دولتهم ويتفحّصون عن علّتها، ولا يقبلون الصّدفة فيها، وترى طبيبهم الملحد – مثلا – يصرف مدّة مديدة، وساعات عديدة من عمره في سبيل معرفة سبب وجود غدّة صغيرة في جسم إنسان مريض تصّدی لمعالجته، ولا يقبل أن يؤمن بأنّها وجدت بنحو الصّدفة والإتّفاق، أو أوجدتها طبيعة الآفاق..
فكيف بهذه البدايع العظيمة في هذا العالم العظيم، هل يمكن قبول أنّها وجدت بالاتّفاق والصّدفة؟!
والصّدفة إن أمكنتها خلق شيء فلابدّ وأن تكون موجودة هي بنفسها .. فيسأل من هو موجدها؟ وإن لم تكن موجودة فيقال: إن المعدوم لا يمكنه إيجاد شيء. على أنّ الصّدفة العمياء شاردة غير منتظرة، لا تخضع لأيّ حساب وقانون، بل تخالف الحسابات العلمية، فكيف يمكنها أن توجد هذه الخلائق الكونية التّي تبهر العقول وتدهش العقلاء؟
وكيف يمكنها أن توجد المادة الأولى لهذا العالم كما يزعمون حتّى يكون العالم ماديّاً؟
وكيف يمكنها أن توجد تكاملها وعلّية موجوداتها فيما بينها – كما يدّعون ۔ حتی يكون العالم صدفية؟ والحال أن الصدفة عمياء صمّاء، وليس لها حظّ من العطاء.
ولنبرهن على هذا الأمر بدلیل عقليّ علميّ وجدانيّ، ونفرض أنّ كتابة صغيرة مرتّبة على مئة صفحة قدّ فرقّت أوراقه وخلطت أعداده ثمّ أعطیت بید شخص أعمى حتّى يرتّبها وينظّم صفحاتها بواسطة سحب تلك الأوراق مسّلسلة إحداها بعد الأخرى .. ترى ما هي نسبة احتمال الموفقية بأن يكون السّحب الأوّل مصيبة للورق الأوَّل؟
الجوّاب: ۱٪ ثمّ ما هي نسبة احتمال أن يكون السّحب الثاني مصيبة أيضاً للورق الثّاني؟ الجوّاب: ١/١٠٠٠٠ وذلك بعمليّة (١/١٠٠٠٠ = ١/١٠٠×١/١٠٠)
ثمّ ما هي نسبة أن يكون السّحب الثّالث أيضاً مصيبة للورق الثّالث؟
الجوّاب: ١/١٠٠٠٠٠٠ وذلك بعملية ١/١٠٠٠٠٠٠ = (١/١٠٠× ١/١٠٠ × ١/١٠٠)
وهكذا .. وهلمّ جرّاً إلى موفقيّة تنظيم إصابة السّحب المئوي للورق المئة بنتيجة عدد تفوق المليارات ويستغرق حسابها السّاعات.
هذه نسبة الصّدفة في كتاب صغير فكيف بنسبة موفقيّة الصّدفة بالنسبة إلى هذا العالم الكبير؟
وهل يقبل العقل أو يصدق الوجدان صدفية هذا النّظام السّماوي والأرضي المنتسق بهذا التّنسيق البهيج؟
وهل يمكن قبول كون أساس العالم ومادّته المتكاملة موجودة بالصّدفة كما يدَّعون؟ كلا ثمّ ألف كلا!!
والحساب المنطقي الواضح هو أنه إذا لم تصدق الصّدفة صدق ضدّه وهو الخلق والتّقدير لأنّهما ضدّان لا ثالث لهما، لا يجتمعان ولا يرتفعان .. ومن المسَّلم أنّ كذب أحدهما يستلزم صدق الآخر، فعدم إمكان الصّدفة يستلزم صدق التّقدير.
فتكون الخليقة موجودة بخلق وتقدير، وهو يدلّ على وجود المقدّر الخبير، وهو الله (جلّ جلاله).
الثّالث: برهان الإستقصاء
فإنّ كّلاً منّا إذا راجع نفسه وتأمّل شخصه يشعر بوضوح، ويدرك ببداهة أنّه لم تكن موجودة أزليّة بل كان وجودها مسبوقة بالعدم، وقدّ وجد في زمان خاص في عام معیّن وشهر معيّن ويوم معيّن.
فلنتساءل ونتفحّص ونبحث:
أ ) هل أنّا خلقنا أنفسنا؟
ب) أو هل خلقنا أحد مثلنا من الممكنات کآبائنا أو أمهاتنا؟
ج) أو هل خلقنا القادر الفاطر الواجب وهو الله (جلّ جلاله)؟
أمّا جوّاب الأوّل: فلا شكّ أنّنا لم نخلق أنفسنا حيث إنّه لم نكن موجودين في الزمان المتقدّم علينا، فكيف أعطينا الوجود لأنفسنا، وفاقد الشّيء لا يعطيه..
ولو تملّكنا من إعطاء الوجود لأنفسنا، لأبقينا لها الوجود ضد الموت، ولا شكّ في عدم قدرتنا على ذلك، بل عدم قدرة الأقوياء منّا ومن كان قبلنا على ذلك.
وأمّا جوّاب الثّاني: فلا شكّ أيضاً أن آباءنا لم يخلقونا، بدليل أنّهم لم يعرفوا أعضاءنا وأجزاءنا ومطويّات أبداننا ومضمرات أجسامنا، فكيف بخلقة حقيقتنا، ومعلوم أنّ الخالق يلزم أن يعرف ما خلقه، والصّانع يعرف ما صنعه.
مع أنّ آباءنا بأنفسهم يموتون ولا يمكنهم إعطاء أو إبقاء الوجود لأنفسهم فكيف يعطونه لأبنائهم؟
.. لا يبقى بعد التّفحص والاستقصاء إلا الشّقّ الثّالث وهو أنه خلقنا الله الذّي خلق كلّ شيء، وهو القادر على كلّ شيء، الوجود والإفناء، والموت والبقاء، وهو الخبير بكلّ محتواه، والعالم بأولاه وعقباه.
وبهذا الاستقصاء التّام تحكم الأفهام، بوجود الخالق العلام.
الرابع: برهان الحركة
فإنّا نرى العالم الكبير بجميع ما فيه متحركة، ويراه الجميع من الإلهيّين والمادّيّين في تغيير، والكلّ يعرفه بحركة وعدم سکون، ومعلوم أنّ الحركة تحتاج إلى محرّك وبديهي أن الأثر لابدّ له من مؤثّر، لأنّ الحركة قوّة والقوّة لا توجد بغير علّة.
إذن فلابدّ لهذه الحياة المتحركة في جميع نواحيها من أعلاها إلى أسفلها، بكواكبها وأراضيها وشمسها وقمرها، وأفلاكها ومجرّاتها.. لابدّ لها ممّن يحرّكها ویدیم حرکتها، وحتّى أجزاء العناصر الساذجة ثبت في علم الفيزياء أنها تدور وتتحرّك حول مركزها بدوام.
ومن المعلوم أنّ القوّة والحركة لا توجد إلا بدافع ومحرّك، وهذا أمر بدیهی يدركه كلّ ذي لبّ وشعور، ويعرف أنّه لابدّ لهذه الحركات العظيمة والتّحولات الدائمة من محرّك حكيم قدير، فمن ترى يمكن أن يكون مصدر القوّة وفاعل الحركة؟
هل المخلوقات التّي نراها يعرضها الضّعف وتحتاج بنفسها إلى المساندة؟! وهل يناسب أن يكون المحرّك إلا الله القوّي الخبير؟
ولقد سُئلت امرأة بدويّة كانت تغزل الصّوف بمغزل صغير عن دليلها على وجود الله تعالى، فأمسكت عن تحريك المغزل حتّى توقّف فقالت: دلیلي هو هذا التوقّف..
قالوا: وكيف ذلك؟
فأجابت: إذا كان مغزل صغير لا يتحرك إلّا بوجود محرّك، فهل يمكن أن يتحرّك هذا الفلك الدّوار الكبير بلا محرّك له؟
وقدّ جاءت الحكمة في هذا المجال: إنّ البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدلّ على المسير، فهذه السّماء ذات أبراج والأرض ذات حركة وارتجاج ألا تدلّان على وجود الخبير البصير؟!.
الخامس: برهان القاهرية
فإنّ الطّبيعة تنمو عادة نحو البقاء لولا إرادة من يفرض عليها الفناء.
فالإنسان الذّي يعيش، والأشجار التّي تنمو، والأحجار التّي هي مستقرّة في الأرض، لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزّوال أو الإنهدام إلا بعلّة فاعلة قاهرة.
فكما أنّ تبّدل اللّاشيء إلى الشّيء يحتاج إلى علّة، كذلك تبّدل الشّيء إلى اللّاشيء لا يمكن إلّا بعلّة.
فإنّا نرى هذا العالم قدّ أحكمت جميع جوانبه بحيث ينبغي أن تسير سيرة دائمة بلا زوال، لكن مع ذلك نراها في زوال دائم ونقص راغم، وزوالها دليل على وجود مزيل لها.
فترى من هو علّة الإماتة والزوال؟ ومن اللّائق أن يكون هو القاهر في جميع الأحوال؟
هل الإنسان بنفسه وهو الذّي يرغب أن يعيش دائمة ولا يموت أبداً – علّة لموت نفسه؟
أم هناك شيء من الممكنات التّي هي مقهورة زائلة بنفسها تتمكن من القاهرية المطلقة؟
أم أن القاهر لجميع المخلوقات هو القادر على خلقها فيقدر على فنائها.
أليس هذا دليلاً على أنّ هناك من يميت ويقدر على الإماتة، كما هو قادر على الإحياء، فنفس الموت دالّ على وجود المميت، كما كان الإحياء دالاًّ على وجود المحيي، فمن هذا الذّي يميته غير الذّي يحييه؟ ومن هو قادر على الإبقاء والإفناء؟ ليس هو إلّا الله الذّي بيده الموت والحياة، والقادر على الإبقاء والإفناء خالق لجميع المخلوقات جلّ شأنه وعظمت قدرته.
هذه أدلّة خمسة من بين الأدلّة العقلية الكثيرة التّي تبرز الإيمان الفطري بوجود الله تعالى.
منقول من كتاب العقائد الحقّة للسيد علي الحسيني الصدر