بناء قبور البقيع مطلب إسلامي موجه للسلطات السعودية
يُشكّل موضوع بناء قبور البقيع، المقبرة الإسلامية التاريخية الواقعة في المدينة المنورة، قضية حساسة ومعقدة تتداخل فيها الأبعاد الدينية والتاريخية والثقافية والسياسية.
فالبقيع، الذي يضم رفات عدد كبير من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وزوجاته والصحابة والتابعين، يمثل مكاناً مقدساً في قلوب المسلمين، ويهدف ترميمها وإعادة بنائها إلى الحفاظ على هذا الإرث التاريخي والديني، وتكريس مكانة هذا الصرح الروحي العظيم. لكن الوصول إلى حل توافقي يرضي جميع الأطراف المعنية، ويحترم الحساسيات الدينية والثقافية المتنوعة، يتطلب دراسة متأنية للخيارات المتاحة، وتقييم شامل للتحديات والعقبات التي تعترض سبيل التنفيذ.
أولاً: استعراض الخلفية التاريخية والدينية للمشكلة:
قبل الخوض في الحلول المقترحة، لابد من استعراض موجز للخلفية التاريخية والدينية لهذه القضية.
ففي عام 1925م – 1344هـ حيث قامت السلطات السعودية بهدم الأضرحة والمباني التي كانت قائمة على القبور ، مما أثار استياءً واسعًا في الأوساط الإسلامية. وقد استند هذا الفعل إلى فتوىً ترفض مظاهر التعظيم والتبرك بالأضرحة والمقامات الإسلامية.
ومنذ ذلك الحين، ظلت القبور مسطحة وغير مميزة، مما أثار حفيظة العديد من المسلمين الذين يرون في ذلك إهانة وتقليلاً من شأن الشخصيات الدينية المدفونة في البقيع.
ويطالب الشيعة في جميع أنحاء العالم بإعادة بناء هذه الأضرحة والمزارات، باعتبار ذلك حقًا دينيًا وثقافيًا لهم، ووسيلة لتكريم الشخصيات الدينية الهامة المدفونة في البقيع. لكن السلطات السعودية ترفض باستمرار هذه المطالب.
وتكمن جذور الخلاف في التفسيرات المتباينة لمفهوم التوحيد ومظاهر التعظيم المسموح بها والمحظورة في الإسلام. ففي حين يرى البعض أن بناء الأضرحة والمقامات يشكل نوعاً من الشرك والبدعة -وهم السلفيون-، يرى آخرون أنه لا يتعارض مع التوحيد، بل هو تعبير عن الحب والتقدير والاحترام للشخصيات الدينية البارزة -وهم الشيعة، والأشاعرة-، وقد أفتى الأزهر بإستحباب البناء على قبور وأضرحة الأولياء والصالحين. فهذه الاختلافات الفقهية والاعتقادية هي التي تشكل جوهر المشكلة، وتعيق التوصل إلى حل توافقي.
كما يمثل هذا الحدث صدمة كبيرة لدى الشيعة، الذين يعتبرون زيارة قبور أئمتهم جزءاً أساسياً من ممارساتهم الدينية، ويرون في هدمها استهدافاً لمعتقداتهم وتاريخهم. ومنذ ذلك الحين، أصبحت قضية إعادة بناء قبور البقيع مطلباً أساسياً لدى الشيعة في مختلف أنحاء العالم، ومصدراً للتوتر بين الشيعة ومخالفيهم، وخاصةً في المملكة العربية السعودية.
ثانياً: موقف السلطات السعودية: بين الحفاظ على الوضع الراهن وتحديات التغيير
تتبنى السلطات السعودية موقفًا ثابتًا من قضية البقيع، يقوم على الحفاظ على الوضع الراهن وعدم السماح بإعادة بناء القبور. وتستند هذه السياسة إلى عدة عوامل:
الأول: الاعتبارات الدينية:
تعتبر السلطات السعودية، المدعومة بالمؤسسة الدينية الرسمية (السلفية)، أن إعادة بناء القبور يتعارض مع الشريعة الإسلامية، ويفضي إلى ممارسات تعتبرها بدعية أو شركية. وهي تخشى من أن يؤدي ذلك إلى انتشار مظاهر الغلو في زيارة القبور والتعلق بها، وهو ما يتنافى مع التوحيد الخالص الذي تعتبره جوهر الدين الإسلامي -حسب معتقدهم-.
الثاني: الاعتبارات السياسية والأمنية:
تخشى السلطات السعودية من أن يؤدي السماح بإعادة بناء القبور إلى إثارة الفتنة الطائفية والنزاعات بين الشيعة وأبناء المذاهب الأخرى، خاصةً في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة. كما أنها تخشى من أن يستغل البعض هذه القضية لتحقيق مكاسب سياسية أو لزعزعة الاستقرار في المملكة.
الثالث: الاعتبارات الثقافية والاجتماعية:
يعتبر الحفاظ على الوضع الراهن في البقيع جزءً من الحفاظ على الهوية الثقافية والاجتماعية للمملكة، والتي تقوم على تفسير معين للدين الإسلامي وتاريخه. والتغيير في هذا الوضع قد يُنظر إليه على أنه تنازل عن هذه الهوية واستسلام لضغوط خارجية.
ومع ذلك، فإن استمرار الوضع الراهن قد يؤدي إلى تفاقم التوتر بين الشيعة وغيرهم، وإلى زيادة الشعور بالإقصاء والتهميش لدى الشيعة في المملكة. لذا، فإن إيجاد حل لهذه القضية يتطلب حواراً صريحاً وبناءً بين جميع الأطراف المعنية، وتفهماً متبادلاً للاعتبارات الدينية والتاريخية والسياسية.
ثالثاً: على السلطات السعودية السعي لإيجاد الحلول لقضية البقيع:
وفي ظل التغيرات التي يشهدها العالم الإسلامي، والتحولات السياسية والاجتماعية التي تمر بها السعودية، قد يكون من الضروري على السلطات السعودية إعادة النظر في سياساتها تجاه قضية البقيع، وذلك من خلال:
- إجراء حوار جاد مع المرجعيات الدينية الشيعية: يجب على السلطات السعودية أن تنخرط في حوار جاد ومفتوح مع المرجعيات الدينية الشيعية، وذلك بهدف فهم وجهات نظرهم ومخاوفهم، وإيجاد حلول توافقية ترضي جميع الأطراف.
- تطوير خطاب ديني أكثر انفتاحاً وتسامحاً: يجب على المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية أن تعمل على تطوير خطاب ديني أكثر انفتاحاً وتسامحاً، يحترم التنوع المذهبي، ويشجع على الحوار والتعايش السلمي بين الشيعة والمذاهب الأخرى. -وقد قامت السلطات السعودية مؤخراً بذلك من خلال عقد مؤتمرات بعنوان”بناء الجسور بين المذاهب” آخرها في شهر رمضان الماضي 1446 هـ .
- اتخاذ خطوات عملية نحو ترميم البقيع: يمكن للسلطات السعودية أن تتخذ خطوات عملية نحو ترميم البقيع ، مع احترام خصوصية المكان وحساسية القضية.
- تخفيف القيود على المظاهر الشيعية: يمكن للسلطات السعودية أن تخفف من القيود المفروضة على المظاهر الشيعية في الأماكن المقدسة، وذلك بما لا يتعارض مع الأمن والنظام العام.
إن اتخاذ هذه الخطوات قد يساعد في تخفيف حدة التوتر الطائفي، وتعزيز الوحدة والتعاون، وتحسين صورة السعودية في العالم الإسلامي. ومع ذلك، فإن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية قوية، ورؤية استراتيجية واضحة، وقدرة على تجاوز الخلافات التاريخية والمذهبية.
رابعاً: الخطوات التي يجب على الشيعة إتباعها:
الحلول ليست مستحيلة، بل تحتاج إلى إرادة صادقة وجهود متضافرة وخطوات مدروسة:
1– الوحدة والتعاون:
هذا هو مفتاح النجاح في أي مشروع عظيم، فما بالكم بمشروع يلامس شغاف القلوب ويرتبط بأقدس المقدسات؟! يجب علينا أن نتحد جميعاً، من كل بقاع الأرض، ونتعاون من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل. يجب أن نؤسس لجبهة موحدة، تضم علماء الدين والمفكرين والمهندسين ورجال الأعمال، جميعهم يعملون بقلب واحد وعقل واحد لتحقيق هذه الغاية السامية.
ولذا تجد الجماهير الشيعية دأبوا على إحياء هذه المناسبة سنويًا بمختلف الفعاليات.
كما وأن 25 نائبًا من البرلمان العراقي طالب الحكومة السعودية بالإسراع بالاستجابة لمطالب الجماهير الشيعية في بناء قبور بقيع الغرقد وذلك في عام 2024م.
وقد أقيمت ألوف الفعاليات والنشاطات الرامية منذ أكثر من مئة عام لأجل تحقيق هذا المطلب الهام.
2– الضغط الدبلوماسي:
لا يمكننا أن ننكر أهمية الدور الدبلوماسي في تحقيق هذا الهدف. ويجب علينا أن نسعى إلى الضغط على الحكومة السعودية، من خلال القنوات الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية، لإقناعها بالسماح ببناء قبور البقيع.
ويجب أن نستخدم جميع الأدوات المتاحة لنا، من البيانات الإعلامية والرسائل المفتوحة والاحتجاجات السلمية، إلى الضغط السياسي والاقتصادي، لإيصال صوتنا إلى العالم أجمع، وتوضيح أهمية هذا الأمر بالنسبة لنا كمسلمين.
وقد أقدم مجموعة من مراجع الدين والقادة السياسيين الشيعة في العراق وغيره والمنظمات المجتمعية والحقوقية على توجيه دعوات مؤخرًا بإعادة قبور أئمة البقيع عليهم السلام.
وقد خرج العام الماضي 2024م عشرات الآلاف من الجماهير الشيعة العراقية إلى الشوارع مطالبين في مهرجانات وفعاليات متعددة السلطات السعودية ببناء البقيع إلى جانب خروج جمع من الشيعة بمظاهرات في نيويورك الأمريكية والهند وأماكن أخرى.
3– الحلول الإبداعية والتكنولوجية:
يجب علينا أن نفكر خارج الصندوق، وأن نبتكر حلولاً إبداعية وتكنولوجية لتجاوز العقبات التي قد تواجهنا. يمكننا مثلاً أن نستخدم تقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد لإنشاء نماذج افتراضية لقبور البقيع، وعرضها على الإنترنت وفي المتاحف، لإحياء ذكرى هذا المكان المقدس.
ويمكننا أيضاً أن ننظم مسابقات معمارية لتصميم أفضل نموذج لبناء قبور البقيع، بحيث يجمع بين الأصالة والحداثة، ويراعي جميع الجوانب الدينية والتاريخية والثقافية.
وفي هذا الصدد فقد قدّم رئيس جامعة واسط العراقية الدكتور مازن الحسيني تصميمًا هندسيًا لبناء ضريح أئمة أهل البيت عليهم السلام في جنة البقيع الغرقد.
كما أقدم مجموعة من الشباب الشيعي على شراء نجمة فضائية بعنوان “البقيع الغرقد” وذلك في الثامن والعشرين من نيسان عام 2023م.
4- التوعية والتثقيف:
يجب علينا أن نزيد الوعي بأهمية البقيع، وأن نثقف الأجيال القادمة بتاريخ هذا المكان المقدّس. ويجب أن ننشر المقالات والكتب والأفلام الوثائقية التي تتحدث عن البقيع، وعن فضائل المدفونين فيه.
كما يجب أن ننظم المؤتمرات والندوات التي تناقش تاريخ البقيع، والتحديات التي تواجهه، والحلول الممكنة لإعادة بنائه. ويجب أن نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لنشر صور البقيع القديمة والحديثة، ومشاركة الروايات التي تتحدث عن هذه البقعة المقدّسة.
5– توصيات ومقترحات للخطوات العملية:
بناءً على ما تقدم، يمكن تقديم التوصيات والمقترحات التالية للخطوات العملية التي يمكن اتخاذها للتوصل إلى حل توافقي لبناء قبور البقيع:
- تشكيل لجنة مستقلة: يتم تشكيل لجنة مستقلة تضم علماء دين ومفكرين وباحثين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، لدراسة القضية وتقديم توصيات ومقترحات للحل.
- إطلاق حملة توعية: يتم إطلاق حملة توعية في وسائل الإعلام المختلفة لشرح القضية وتوضيح أهمية البقيع وتاريخه.
- إجراء دراسات جدوى: يتم إجراء دراسات جدوى لتقييم الخيارات المتاحة لبناء القبور، وتطوير البنية التحتية للمقبرة.
- التعاون مع السلطات السعودية: يتم التعاون مع السلطات السعودية للتوصل إلى اتفاق بشأن بناء مقبرة البقيع.
- تنفيذ المشاريع المقترحة: يتم تنفيذ المشاريع المقترحة لبناء القبور وتطوير البنية التحتية للمقبرة، مع مراعاة الحساسيات الدينية والثقافية.
6– الأساس القانوني لبناء قبور البقيع
يمثل هدم قبور البقيع في المدينة المنورة، الذي وقع في بدايات القرن العشرين، انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والمبادئ الإنسانية التي تحمي الأماكن الدينية والتراثية. وبغض النظر عن الخلافات المذهبية، فإن تدمير المقابر، التي تعتبر مقدسة لدى شريحة واسعة من المسلمين، يشكل تعديًا على حقوقهم الدينية والثقافية المكفولة بموجب الإعلانات والمواثيق الدولية. وإن حماية المواقع الدينية والتاريخية، بغض النظر عن الدين أو المذهب الذي تنتمي إليه، هي مسؤولية تقع على عاتق الدولة التي تقع ضمن حدودها هذه المواقع.
فالهدم المتعمد لمثل هذه الأماكن يُعد تقويضًا للسلام والتعايش السلمي بين مختلف الطوائف والمجتمعات. ويجب التأكيد على أن احترام الأماكن الدينية والتراثية هو ركيزة أساسية من ركائز القانون الدولي وحقوق الإنسان.
الخاتمة
إن بناء قبور البقيع يمثل تحدياً كبيراً، ولكنه ليس مستحيلاً؛ فمن خلال الحوار والتواصل والتعاون، يمكن التوصل إلى حل توافقي يرضي جميع الأطراف المعنية ويحترم الحساسيات الدينية والثقافية المتنوعة.
وإن البقيع يمثل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الإسلام وإرثه الروحي، ويجب علينا أن نعمل جميعاً على الحفاظ عليه، وتكريس مكانته في الذاكرة الإسلامية. وإن إعادة بناء قبور البقيع ليس مجرد ترميم لمقبرة تاريخية، بل هو تعبير عن احترامنا وتقديرنا للشخصيات الدينية البارزة المدفونة فيها.
في النهاية، تعتبر قضية البقيع اختباراً حقيقياً لقدرة السلطات السعودية على التعامل مع التحديات المعقدة التي تواجهها، وإيجاد حلول مستدامة للقضايا الخلافية التي تهدد الوحدة والاستقرار الإقليمي.