الدليل العقلي على وجود الخالق الباري
البرهان على وجود الخالق للأَشياء المتعالي عن كلِّ شيءٍ وتصوُّرٍ وتوهمٍ وشبحٍ وصورةٍ: فهو أَنَّ كلَّ ما ندركه ونجده موجودًا من الأَشياء المتجزِّئة إمَّا أَن يكون متناهيًّا، وإمَّا غير متناهيٍّ، والثَّاني محالٌ لما سنبيِّنه من أَنَّ وجود اللَّامتناهيِّ محالٌ مطلقًا.
والأَوَّل، فإمّا أَن يكون موجودًا بنفسه ومستغنًى عن العلَّة الموجدة، وإمَّا أَن يكون مفتقرًا إليها، والأَوَّل باطلٌ لأَنَّ ما يقبل الزِّيادة والنُّقصان ويستوي له الوجود والعدم ويصحّ فرض عدمه بعدم أَجزائه، فمن البديهيَّة أَنَّه لا يمكن أَن يوجد إلَّا بأَن يوجده غيره، والثَّاني، فإمَّا أَن تكون علَّته موجودةً، وإمَّا أَن تكون معدومةً، والثَّاني باطلٌ بالضَّرورة؛ حيث إنَّ من البديهيَّ أَنَّ العدم لا يكون شيئًا في نفسه، فضلاً عن أَن يكون مؤثِّرًا في غيره.
والأَوَّل – وهو أَن تكون علَّة الأَشياء موجودةً – فهي إمَّا نفس الأَشياء، وإمَّا جزؤها، وإمَّا خارجةً عنها، وبما أَنَّ الأَوَّل والثَّاني منها خلاف الضّرورة والبداهة العقليَّة للزُّومها تقدُّم الشَّيء على نفسه أَو أَجزائه، فيتعيَّن الثَّالث، وهو كون الخالق تبارك وتعالى خارجاً عن الأَشياء وبخلافها كلِّها، ومتعالياً عن أَن يكون امتداديًّا ومتجزِّئًا وعدديًّا.
عن الإمام الجواد عليه السَّلام قال: «إِنَّ مَا سَوَى الوَاحِدِ مُتَجَزٍّ، وَاللهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ لَا مُتَجَزٍّ وَلَا مُتَوَهِّمٍ بِالقَلَّةِ وَالكَثْرَةِ، وَكُلُّ مُتَجَزٍّ، أَوْ مُتَوَهِّمٍ بِالقَلَّةِ وَالكَثْرَةِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ دَالٌّ عَلَى خَالِقٍ لَهُ». (1)
وعن الإمام الرّضا عليه السَّلام قال: «تَعَالَى رَبُّنَا أَنْ يَكُونَ مُتَجَزِّيًا أَوْ مُخْتَلِفًا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ وَيَأْتَلِفُ الْمُتَجَزِّئُ لِأَنَّ كُلَّ مُتَجَزٍّ مُتَوَهِّمٌ، وَالْكَثْرَةُ وَالْقَلَّةُ مَخْلُوقَةٌ دَالَّةٌ عَلَى خَالِقٍ خَلَقَهَا». (2)
ومرادنا من المقدَّاريِّ هو المتجزِّئ والامتداديُّ، متناهياً فرض، أَم غير متناهٍ لا الامتداد المحدَّد المتناهيِّ فقط.
برهان آخر:
1- إنَّ الموجود المتجزِّي متحقَّقٌ بالضَّرورة.
2- إنَّ الموجود الامتداديَّ المتجزِّئ يستحيل أَن يكون مجرَّداً عن حدٍّ يحده وصفاتٍ وكيفيَّاتٍ معيَّنةٍ تشخِّصه.
3- إنَّ تلك الحدود والأَحوال ليست نفس ذات الأَشياء ولا مقتضى ذاتها، وذلك لجواز تحوُّلها عنها إِلى غيرها وإِمكان وجودها على غير تلك الصِّفات والأَحوال.
4- إنَّ كلَّ ما لا يكون بنفسه فهو بالفاعل – ذاتًا وصفةً لا ستحالة انفكاك الشَّيء عن صفاته كما وكيفًا -.
5- إنَّ الموجود المتجزِّئ يستحيل أَن يكون خالقًا وموجِّدًا لشيءٍ،
والنَّتيجة: أَنَّ للأَشياء الامتداديَّة المتجزَّئة خالقًا متعاليًا عن أَن يكون امتداديًّا متجزِّئًا عدديًّا.
عن الإمامُ أميرُ المؤمنينَ عليه السَّلام قال: «جلَّ عَنْ أَنْ تَحْلَهُ الصِّفَاتُ، لِشَهَادَةِ العُقُولِ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّتْهُ الصِّفَاتُ مَصْنُوعٌ، وَشَهَادَةِ العُقُولِ أَنَّهُ جلَّ جَلَالَهُ صَانِعٌ لَيْسَ بمصْنُوعِ». (3)
فإنَّ جواز الإنصاف فرعٌ التَّجزِّي والكمُّ والكيف والعدد وقابليَّة الصِّفة، وذلك ملاك المصنوعيَّة.
عن الإِمَامِ الرِّضَا عليه السَّلام قال: « وَأَدْوُهُ إِيَّاهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا أَدَاةَ لَهُ لِشَهَادَةِ الْأَدَوَاتِ بِفَاقَةِ الْمُتَأَدِّينَ». «لِشَهَادَةِ الْعُقُولِ أَن كُلَّ صِفَةٍ وَمَوْصُوفٍ مَخْلُوقٌ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَن لَهُ خَالِقًا لَيْسَ بِصِفَةٍ وَلَا مَوْصُوفٍ». (4)
وعن الإِمَامِ الصَّادِقِ عليه السَّلام قال: «… أَمْصُنُوعٌ أَنْتَ أَمْ غَيْرُ مُصَنَّوَعٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: بَلْ أَنَا غَيْرُ مُصَنَّوَعٍ، فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: فَصِفْ لِي لَوْ كُنْتَ مُصَنَّوَعًا كَيْفَ كُنْتَ تَكُونُ؟ فَبَقِيَ عَبْدُ الْكَرِيمِ مَلِيًّا لَا يُحِيرُ جَوَابًا، وَوَلَعَ بِخَشَبَةٍ كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: طَوِيلٌ عَرِيضٌ، عَمِيقٌ، قَصِيرٌ، مُتَحَرِّكٌ سَاكِنٌ، كُلُّ ذَلِكَ صِفَةٌ خَلْقَهُ. فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ لَا: فَإِن كُنْتَ لَمْ تَعْلَمْ صِفَةَ الصَّنَعَةِ غَيْرَهَا فَاجْعَلْ نَفْسَكَ مُصَنَّوَعًا، لِمَا تَجِدْ فِي نَفْسِكَ مِمَّا يَحْدُثُ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ». (5)
وبیان آخر: 1- يجد كلُّ أَحدٍ أَنّه لا يمكن تصوُّر عدم ذاتٍ إِلّا إِذا كان وجوده في الأَجزاء والأَحوال والصِّفات.
عن الإِمام الصّادق عليه السَّلام قال: «إِنّي مَا وَجَدْتُ شَيْئًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا إِلَّا وَإِذَا ضُمَّ إِلَى مِثْلِهِ صَارَ أَكْبَرَ، وَفِي ذَلِكَ زَوَالٌ وَانْتِقَالٌ عَنْ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا مَا زَالَ وَلَا حَالٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَزُولُ وَيَحُولُ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ وَيُبْطِلَ، فَيَكُونُ بِوُجُودِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ، دُخُولًا فِي الْحَدَثِ». (6)
وعن الإمامُ أميرُ المؤمنينَ عليه السَّلام قال: «إِنَّ كُلَّ مَنْ حُلَّتْهُ الصِّفَاتُ مَصْنُوعٌ». (7)
2- كلّ ما يكون قابلاً للعدم فتخصيصه كمّاً وكيفاً بالوجود وأَحواله الخاصَّة به يكون بغيره المتعالي عن الأَجزاء والأَحوال والصِّفات فهو مخلوقٌ حادثٌ، وإِلَّا لزم الخلف واجتماع الوجود والعدم،
3- خالق الأَشياء المتجزِّئة يخالفها، وإِلَّا تسلُّسلٌ.
وبعبارة أخرى: كلَّ ما نجده موجودًا، بل كلَّ ما يمكن أَن نتصوَّره موجودًا، يجوز أَن يسلَّب عنه كلُّ ما يفرَّض له، فكلُّ ذلك يكون بغيره لا بنفسه، فهو مخلوقٌ دالٌ على خالقٍ بخلافه. وذلك حيث إِنَّ الموجود بنفسه بخلاف الموجود بغيره.
وتوضيح ذلك: أَنَّ كلَّ ما نراه – بل نتصوَّره وتجوز له الوجود – فهو إِمَّا متغيِّرٌ بالفعل، وإِمَّا أَن يجوز عليه التَّغيُّر، فإِنَّ كلَّ ذلك خصَّ وجوده بكمٍّ وكيف قد كان يمكنه بالنَّظر إِلى ذاته أَن يكون على غير ذلك الكمِّ والكيف، فإِنَّ الشَّمس مثلًا كان يمكنها بالنَّظر إِلى ذاتها.. أَن تكون كالقمر، كما أَنَّ القمر أَيضًا بالنَّظر إِلى ذاته كان يمكنه أَن يكون كالشَّمس، وهكذا في كلِّ شيء نعرفه موجودًا أَو قابلًا للوجود.
وحينئذٍ فنقول: إِنَّ تخصيص كلِّ شيءٍ بكمِّه وكيفه الخاصِّين به إِن كان بنفس ذاته لكان يمتنع أَن نتصوَّره موجودًا على وجه آخر. وحيث إِنَّه يمكن أَن نتصوَّر كلَّ شيءٍ على غير ما هو عليه، ولا تكون أَوصافه الوجوديَّة مقتضى ذاته فيكون كلُّ ذلك بل وأَصل وجوده بمشيَّة غيره، وإِيجاده.
ثمَّ إِنَّه يجب أَن يكون خالق الأَشياء وموجدها بخلاف الأَشياء كلِّها متعاليًا عن الاتِّصاف بالكمِّ والكيف فرارًا عن نفس المحذور.
وهذا دليلٌ ساذجٌ وبرهانٌ قاطعٌ للاهتداء إِلى العلم بوجود خالق الأَرض والسَّماء وما فيهما وما بينهما، وكونه جلَّت عظمته متعاليًا عن وجود كلِّ الأَشياء وأَوصافها وكيفيَّاتها.
وممّا يجب التَّذكير به هاهنا: هو أَنّنا لا نحتاج مع هذا البيان إِلى الفحص عن موارد الاستثناء من السّنن الجارية على الخلق، كموارد معجّزات الأَنبياء والمعصومين عليهم السّلام، بل على هذا البيان يصبح كلّ ما نراه ونجده من الموجودات والأَشياء استثناءً في الوجود والتّحقق دالًا على وجود بارئها المتعالي عنها.
ثمّ إِنّ الفرق بين البرهانين هو أَنّ في البرهان الثّاني قد استنتج من وجوب كون الأَشياء مصنّعةً مخلوقةً امتناع كونها قديمةً أَزليّةً غير متناهيةً، وأَمّا في البرهان الأَوّل يكون الأمر بالعكس؛ حيث إنّ فيها استدلّ بامتناع كون الأَشياء غير متناهيةٍ أَزليّةٍ على وجوب كونها مصنّعةً مخلوقةً مدبّرةً.
المصدر: أصول المعارف الإلهية للشيخ حسن الميلاني.
_________________________
(1) الكافي: ج 1، ص 116.
(2) الاحتجاج: ج 2، ص 406.
(3) الإرشاد:ج 1، ص 223. والاحتجاج: ج 1 ، ص 200.
(4) التوحيد للصدوق: ص 36. والاحتجاج: ج 2، ص 399.
(5) الكافي: ج 1، ص 76.
(6) الكافي: ج 1، ص 76.
(7) الكافي: ج 1، ص 76.