بعد موت معاوية: الإمام الحسين عليه السلام يرفض الطغيان ويطلق شرارة النهضة
في رجب سنة 60 هـ، مات معاوية بن أبي سفيان بعد أن مهّد لإبنه يزيد الطريق إلى الحكم، مخالفًا صريح بنود الهدنة بينه وبين الإمام الحسن (علي السلام)، ومستهينًا بوصايا النبي (صلى الله عليه وآله). وعلى الفور، أرسل يزيد إلى والي المدينة، الوليد بن عتبة، يأمره بأخذ البيعة من الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) بالقوة.
جاء في كتاب “الفتوح” لإبن أعثم: “كتب يزيد إلى الوليد: إذا أتاك كتابي هذا فخذ البيعة من الحسين بن علي… فإن أبى فاضرب عنقه“.
في ظلمة الليل، استُدعي الإمام الحسين (عليه السلام) سرًّا إلى دار الإمارة، لكنه رفض أن يبايع سرًّا أو علنًا، وقال كلمته التي سجّلها التاريخ في ذاكرة الأمة كما جاء في رواية السيد ابن طاووس في “اللهوف”، حيث وصف يزيد بقوله: “يزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله“.
وبينما كان الخطر يقترب، اتخذ الإمام قراره بالرحيل عن المدينة، حاملًا أطفاله ونساءه وآله وشيعته، وميممًا وجهه نحو مكة، فخرج “ليلة الأحد، لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين”، كما يؤكد ذلك المفيد في الإرشاد.
وفي مكة، بدأ الإمام الحسين (عليه السلام) يكشف مشروعه الإصلاحي، ويشرح سبب خروجه علنًا للأمة، فوقف في الناس وخطب خطبته الشهيرة، فقال كما رواها أبو مخنف: “أيها الناس، إن رسول الله قال: من رأى سلطانًا جائرًا مستحلا لحرم الله… فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقًا على الله أن يدخله مدخله.. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن..“.
ومن مكة، بدأت رسائل الكوفيين تتوالى على الإمام تطلب منه القدوم إليهم لقيادة الثورة. قال المفيد في “الإرشاد”: “فورد عليه في يوم واحد ست مئة كتاب، وتتابعت بعده الكتب حتى اجتمع عنده ما يزيد على اثني عشر ألف كتاب”، كلها تدعوه إلى “أن أقدم علينا، فإنا لا إمام لنا“.
حينها قرر الإمام الحسين (عليه السلام) أن يبعث سفيره مسلم بن عقيل (عليه السلام) ليستطلع الوضع ميدانيًا، وقال وصيته له: “انظر ما اجتمع عليه رأي الناس، فاكتب إليّ به“.
دخل مسلم الكوفة، فبايعه الآلاف للحسين، وقيل كما في رواية ابن أعثم: “بلغ عدد المبايعين ثمانية عشر ألفًا”.
وفي هذه الأثناء، كانت مكة تموج بالحجيج، وكان يزيد قد دسّ عملاءه لإغتيال الإمام (عليه السلام) في موسم الحج، فخطب الإمام في الناس، كما رواه السيد ابن طاووس في “اللهوف”: “خُطّ الموت على ولد آدم مَخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً. لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويُوفّينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، ومُوطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله“.
ثم كان الحوار الأخير بينه وبين أخيه محمد بن الحنفية، كما رواه السيد ابن طاووس في “اللهوف”، فقال له محمد: “فما حداك على الخروج عاجلا“، فأجابه الإمام بكلمة مؤلمة حُفرت في وجدان البشرية: ” أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإن الله قد شاء ان يراك قتيلا“، فقال له ابن الحنفية: “إنا لله وإنا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ فقال له: “قد قال لي: إن الله قد شاء أن يراهن سبايا“.
هكذا بدأت النهضة الحسينية: رفضٌ صريح لبيعة الطاغية، وهجرةٌ من أجل الله، وخطابٌ علني يكشف جوهر الصراع، وتحركٌ مدروس يبدأ من مكة برسالة إصلاح ونداء تغيير.
وفي الأفق، كانت كربلاء تتهيأ لتكون مسرح المواجهة الحاسمة بين معسكر الطغيان، وركب النور القادم من بيت النبوة.