وصية الإمام علي (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) قبل موته
“أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ”… إنها الكلمة الأولى، وهي عنوان النجاة، وسر الخلود، ومفتاح أبواب الجنان. فبالتقوى يطيب العيش، ويزكو القلب، ويستنير البصر والبصيرة. وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، فجعل المعيار الأوحد للكرامة هو التقوى.
الإمام عليه السلام لا يوصي بكنز، ولا بمنصب، بل يوصي بما أوصى الله به الأولين والآخرين. إنها وصية نبي إلى نبي، وإمام إلى إمامين، وفقيه إلى كل مؤمن ومؤمنة.
“ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما”، فالدنيا فاجرة، غدارة، ماكرة، تزهو ببهرجها وتفتن بزينتها. يحذّر الإمام عليه السلام منها لأنها طالما أغرت وضللت، وهي التي أغوت فرعون وهامان، وأطغت قارون وأتباعه.
الزهد العلوي هنا ليس انطواءً ولا تخلّيًا عن الإعمار، بل هو التحرر من سلطان الدنيا على القلب. كما قال الإمام الصادق عليه السلام: “اجعل الدنيا في كفّك ولا تجعلها في قلبك”.
“وقولا بالحق، واعملا للآجر، وكونا للظالم خصمًا، وللمظلوم عونًا”. بهذه الكلمات المباركة يرسّخ الإمام عليه السلام دعائم العدالة الإلهية، ويجعل من ولديه جُندًا لله في نصرة الحق، فهما امتدادٌ للنبوة، وتجسيدٌ لصرخة المستضعفين.
إن الوقوف مع المظلوم ليس موقفًا إنسانيًا فحسب، بل هو واجب إلهي، وإنكار للظلم هو فريضة على كل من انتسب لمدرسة آل محمد عليهم السلام. كما قال الإمام زين العابدين عليه السلام: “اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماسًا من فضول الحطام، ولكن لنُريَ المعالم من دينك”.
“صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام”… ما أقدسها من كلمة، تضعنا على حقيقة طالما غفل عنها العابدون. فكم من صلاة لا تتجاوز التراقي، وكم من صيام لا يزيد صاحبه إلا جوعًا! أما الإصلاح بين الإخوة، فهو جهاد، وهو خلق رباني. ألم يقل الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10]؟
“الله الله في الأيتام، فلا تُغِبُّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم”… يفتتح الوصية بتكرار اسم الجلالة، لينبّه إلى عِظَم الأمانة، ثم يصوّر جوع اليتيم بأبلغ تعبير، فلا يرضى أن تغيب أفواههم عن الطعام، ولا أن يُهمَلوا وأنتم تنظرون. كيف يُنسى اليتيم وربُّه يقول: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9]، ونبيّه يعد كافله بمرافقة الجنة؟
“الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم”. دعوة إلى جعل القرآن حيًّا في الضمير، حاضرًا في الجوارح، لا يُكتفى بتلاوته، بل يُعمل به عملًا يشهد به على حملته يوم الحساب.
“اللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ،فإنها عمود دينكم”. فالصلاة هي الركن الركين، بها تُعرَف هوية المؤمن، وهي مِعراج الأرواح الطاهرة، وميدان الخضوع للمولى سبحانه. من أضاعها فقد هدم البناء، ومن أقامها فقد استمسك بالعروة الوثقى.
“الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله”. فالجهاد ليس بالسيف وحده، بل بالكلمة والمال والموقف. وكل صنفٍ من ذلك هو وقوف في وجه الباطل، ومناصرة للحق، في ميادين لا تنحصر في ساحات القتال، بل تشمل منابر الكلمة، وميادين الإنفاق، وساحات الصبر.
ويحذّر الإمام من التفريط في وظيفة الأنبياء عليهم السلام: “ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيُولّى عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يُستجاب لكم”. إنها تحذير مقدس بأن ترك هذه الفريضة يورّث الذل، ويجلب السخط، ويجعل الدعاء بلا مجيب.
وفي أسمى لحظات العدل، يقول الإمام عليه السلام: “ألا لا تقتلُنّ بي إلا قاتلي”. إنه ليس دعوة إلى الاقتصاص فحسب، بل إلى عدالة السماء، حيث لا يُقتصّ إلا ممن اقترف الجريمة. وينهى عن المثلة حتى بالمجرم: “فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور”.
أيُّ إمام هذا الذي يوصي بالرحمة وهو ينزف؟ أيُّ روح هذه التي تسمو فوق الجراح، وتعانق الملائكة؟
هذه الوصية ليست كلمات مودّع، بل هي بيان إمام منصوص، وحارس شريعة، وخاتمة نورٍ سماوي. فيها سر آل محمد عليهم السلام، ونبض الرسالة، وطهارة النبوة. إنّها وصيّة تُتلى ما دام القرآن يُتلى، وتُدرّس ما دام في الأرض موالٍ لعلي وآل علي عليهم السلام.
فطوبى لمن وعاها، وعمل بها، وسار على خطاها. والسّلام على أمير المؤمنين عليه السلام ، يوم وُلد في الكعبة، ويوم استُشهد في المحراب، ويوم يُبعث شفيعًا للأبرار.