في يوم الاثنين، الثامن والعشرين من صفر أغمض النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عينيه في بيت ابنته فاطمة (عليها السلام)، ورحل إلى الرفيق الأعلى. عمّ الحزن المدينة، وانكسرت قلوب المؤمنين، لكنّ الأشد وقعًا أنّ جسده الطاهر تُرك ليغسّله ويكفّنه القليل من خلّص أهل بيته، فيما كانت السقيفة تضجّ بالجدال على السلطة.
تولّى أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) تغسيل النبي (صلى الله عليه وآله) وتجهيزه بنفسه، كما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج2 ص263) والشيخ المفيد في الإرشاد (ج1 ص190). شاركه الفضل بن العباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد. وبعد أن كُفّن صلّى عليه المسلمون فرادى لا جماعة، يدخلون فوجًا بعد فوج، وهو أمر لم يحدث مع أحد قبله ولا بعده【الطبقات لابن سعد 2/263】.
دفنه الإمام عليّ (عليه السلام) في الموضع الذي قبض فيه – حجرته الشريفة – كما أوصى، وأغلق القبر بيديه الشريفتين وهو يخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله) المفارق بكلمات تقطر دمعًا: «إنّ الصبر لجميل إلا عنك، وإنّ الجزع لقبيح إلا عليك»【نهج البلاغة، خطبة 235】.
لكن بينما كان البيت النبوي يكتسي بالسواد واللوعة، كانت السقيفة على بعد خطوات تشتعل بنزاع دنيويّ على الحكم، وكأنّ رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يزل في ساعته الأولى.
من القبر إلى السقيفة
لم تمضِ ساعات على الدفن، حتى اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليولّوا سعد بن عبادة. سارع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى هناك، فدار النقاش وارتفعت الأصوات، حتى حُسم الأمر بمبايعة أبي بكر على عجل.
في تلك الأثناء كان الإمام عليّ (عليه السلام) وبنو هاشم منشغلين بالرسالة الكبرى: تجهيز النبي (صلى الله عليه وآله) ودفنه. وحين انتهوا، فوجئوا بأنّ الخلافة حُسمت من دونهم، وأنّ بيعة السقيفة فُرضت على الأمة【تاريخ الطبري 2/457، أنساب الأشراف للبلاذري 1/582】.
الهجوم على دار الوحي
أبى الإمام عليّ (عليه السلام) أن يبايع، ووقف مع زوجته الزهراء (عليها السلام) مدافعًا عن حقّه الذي أوصى له به النبي (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم. لكن القوم لم يرضوا إلا بالبيعة، فاتجهوا إلى بيت فاطمة (عليها السلام)، البيت الذي كان مهبط الملائكة، ومحل نزول آية التطهير (الأحزاب/33).
جاء عمر بن الخطاب ومعه جماعة، ووقف عند باب الدار، فهدّد: “والذي نفس عمر بيده، لتخرجنّ إلى البيعة أو لأحرقنّ البيت عليكم.”
(ذكره ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة 1/30، والبلاذري في أنساب الأشراف 1/586).
في داخل البيت كانت الزهراء (عليها السلام) تبكي أباها، وتحتضن الحسنين (عليهما السلام)، فإذا بالباب يُدفع دفعًا عنيفًا، فتُسحق الزهراء (عليها السلام) بين الباب والحائط، ويُكسر ضلعها، ويسقط جنينها “المحسن” شهيدًا قبل أن يُولد【الشيخ المفيد، الاختصاص ص185؛ الصدوق، علل الشرائع ج1 ص211】.
صرخة الزهراء (عليها السلام)
خرجت سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، متوجّهة إلى القوم رغم الحزن والمرض، تخاطبهم بحرقة: «يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! أما تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا حتى تقطعتم أمركم بينكم؟!»【الاحتجاج للطبرسي 1/108】.
لكن الصوت الصادح بالحق ضاع في صخب السياسة. بقيت الزهراء (عليها السلام) بعد أبيها (صلى الله عليه وآله) مكسورة الضلع، دامية القلب، حتى رحلت بعد أيّام قليلة وهي غاضبة على القوم. يروي البخاري في صحيحه (5/82): “فغضبت فاطمة بنت رسول الله على أبي بكر، فلم تكلّمه حتى تُوفيت.”
ودُفنت ليلاً، سرّاً، دون أن يعلم القوم بموضع قبرها، وكان ذلك أوضح شاهد على المظلومية.
الخاتمة
هكذا اجتمعت فواجع الأمة في أيام معدودة:
فاجعة فقد الرسول (صلى الله عليه وآله)، ودفنه في حجرته الشريفة.
فاجعة السقيفة، حين قُطعت وصية الغدير بسيف السياسة.
وفاجعة الهجوم على بيت عليّ وفاطمة (عليهما السلام)، الذي تحوّل من بيت الوحي إلى مسرح ظلم.
ومنذ ذلك اليوم، ظلّت الأمة تحمل جرحين: جرح الفقد، وجرح المظلومية. جرحٌ طُمر في قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، وجرحٌ آخر ظلّ يئنّ في صدر الزهراء (عليها السلام) حتى فارقت الحياة، تاركة وصيّة مدوّية: أنّ الحق مع عليّ وأبنائه (عليهم السلام)، وأنّ الظلم الذي وقع على العترة الطاهرة (عليهم السلام) سيبقى شاهداً على انحراف التاريخ.