مقدمة
غَدِيرُ خُمٍّ ليس مجرد موقفٍ تاريخيٍّ في صحراء موحشةٍ بين مكة والمدينة، بل هو نداءٌ خالدٌ اختصر مسار الرسالة، وفتح الباب أمام أعظم وصيةٍ في الإسلام بعد ختم النبوة. ففي الثامن عشر من ذي الحجة، بعد حجة الوداع، وعلى مشارف الرحيل، أوقف النبيُّ الأكرمُ محمدٌ صلى الله عليه وآله أكثر من مئة ألف حاجٍّ تحت شمسٍ لافحة، وأمرهم أن يشهدوا على أمرٍ ليس ككل أمر: رفع يد علي بن أبي طالب عليه السلام، وقال كلمته التي دوّت في السماء قبل أن تستقر في الأرض: «من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه» (1).
وتعد واقعةُ غَدِيرِ خُمٍّ من أهم المحطات التاريخية في الإسلام، لما تحمله من دلالاتٍ عقائديةٍ كبرى تتعلق بولاية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بعد رسولِ اللهِ محمدٍ صلى الله عليه وآله.
واقعةُ الغَدِيرِ: تَتْويجُ الولايةِ الإلهيةِ
بعدما أدى النبيُّ صلى الله عليه وآله حَجَّةَ الوداعِ، انطلق مع المسلمين عائدًا إلى المدينة. وفي الطريق، وعند مفترق طرقٍ يُعرَفُ بِغَدِيرِ خُمٍّ بين مكة والمدينة، نزل الوحيُ على النبيِّ صلى الله عليه وآله بأمرٍ إلهيٍّ حاسم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67). فاستجاب النبيُّ فورًا لهذا الأمر الإلهي، فأمر أن يُردَّ من تقدّم، وأن يُنتظر من تأخّر، وتوقف في ذلك المكان تحت شجرة، ونُصب له منبر من أقتاب الإبل. اجتمع المسلمون وهم عشرات الآلاف (بحسب بعض الروايات يُقدّر العدد بـ 70,000 إلى 120,000 حاجٍّ)، ثم ارتقى عليه وخطب الناس خطبةً طويلة ختمها بالإعلان الرسمي عن ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وأكّد صلى الله عليه وآله على أهمية التمسك بكتاب الله وأهل بيته عليهم السّلام، وقال:
«كأنِّي دُعيتُ فأجَبتُ، إنِّي قد تَرَكتُ فيكمُ الثَّقَلينِ، أحدُهما أكبَرُ منَ الآخَرِ: كتابَ اللهِ عزَّ وجلَّ وعِترَتي أهلَ بَيتي، فانظُروا كيف تَخلُفوني فيهما، فإنَّهما لن يَتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحَوضَ، ثم قال: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مَوْلايَ، وأنا وليُّ كُلِّ مُؤمِنٍ، ثم أخَذَ بيَدِ عليٍّ عليه السّلام فقال: مَن كنتُ وَلِيَّه فهذا وَلِيُّه، اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ، وعادِ مَن عاداهُ»(3).
بعد إعلان الولاية لعليٍّ عليه السّلام، نزل الوحي على النبي بهذه الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: 3).
فقال النبي صلى الله عليه وآله: «الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، والولاية لعليّ بن أبي طالب بعدي» (5).
إعلانُ البيعةِ
بعد الخطبة، أمر النبيُّ صلى الله عليه وآله أن يُبايِعَ المسلمونَ عليًّا عليه السّلام بالولاية، فبايعوه رجالًا ونساءً، ومنهم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب (الذي قال: “هَنِيئًا لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ”) (6)، وعثمان بن عفان، والصحابةُ كافةً.
وأقام النبيُّ صلى الله عليه وآله في ذلك المكان ثلاثةَ أيامٍ، لِتَتِمَّ البيعةُ والتأكيدُ على الأمر.
دلالاتُ واقعةِ الغديرِ
1- إعلانُ الولايةِ الإلهيةِ: النبيُّ صلى الله عليه وآله لم يُعيِّن عليًّا بن أبي طالبٍ عليه السّلام من نفسه، بل بأمرٍ من الله.
2- الإمامةُ من أصولِ الدينِ: لا يتم الإيمانُ الحقيقيُّ إلا بالاعتقادِ بإمامةِ عليٍّ عليه السّلام وأهلِ البيتِ عليهم السّلام من بعده.
3- التفافُ الأمةِ حول القيادةِ: كان التتويجُ في الغديرِ بمثابة تأسيسٍ للإمامةِ كامتدادٍ للنُّبوّةِ في قيادةِ الأمةِ.
أهميةُ غَدِيرِ خُمٍّ
غَدِيرُ خُمٍّ يمثل قمةَ الإعلانِ الإلهي لاكتمالِ الدين، فالإمامةُ ليست شأنًا سياسيًّا بل استمرارٌ للنبوّةِ في بُعدِها الهِدَائيِّ. والنبيُّ صلى الله عليه وآله لم يكن مجردَ مُبلِّغٍ، بل مُربِّي أمةٍ، ومُعَلِّمَ قلوبٍ، وحين أتمَّ التبليغ، كان لا بدَّ أن يضعَ من يحملُ مشعلَ الهدايةِ من بعدِه. وهنا تتجلّى أهميةُ الغديرِ: هو خَتْمُ النبوّةِ وبدايةُ الوِصايةِ.
نقاطُ القوةِ في واقعةِ الغديرِ
1- الإجماعُ التاريخي: الغديرُ لم يُروَ فقط في كتبِ الشيعة، بل نقله كبار علماء المخالفين، منهم أحمد بن حنبل، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم وغيرهم. والحديثُ متواترٌ: رواه أكثرُ من مئةِ صحابيٍّ. (7)
2- الموقفُ العلنيُّ: أكثر من مئةِ ألفِ شاهدِ عيانٍ، في صحراءَ مكشوفةٍ، وفي موسمِ الحج، وعلى لسانِ النبيِّ صلى الله عليه وآله، لا في خفاءٍ أو غموضٍ.
3- البلاغُ القرآنيُّ: حادثةٌ مرافقةٌ لنزولِ آياتٍ محوريةٍ في إكمالِ الدين، مما يمنحُ الواقعةَ بُعدًا عقائديًّا لا يمكن تجاهله.
4- الدعاءُ النبويُّ: دعاءُ النبيِّ صلى الله عليه وآله: «اللهم والِ من والاه…» يخرج بالمسألةِ من حدودِ الإخبار إلى حدودِ الموقفِ الإلهيِّ.
ما يميّزُ الغديرَ عن سائرِ أحاديثِ النبيِّ صلى الله عليه وآله في عليٍّ عليه السّلام
أحاديثُ النبيِّ صلى الله عليه وآله في فضلِ عليٍّ عليه السّلام كثيرةٌ، كـ”عليٌّ مع الحقِّ” و”أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها” و”أنتَ مني بمنزلةِ هارونَ من موسى”، لكن الغديرَ ينفردُ بأمرين:
1- الطابعُ الرسميُّ والتكليفيُّ: فهو إعلانٌ علنيٌّ وبصيغةِ بلاغٍ من الله، مما يجعل الحدثَ ذا طابعٍ دستوريٍّ في الإسلام.
2- تعيينُ القيادةِ لا مجردُ الثناء: كثيرٌ من الأحاديثِ تمدحُ عليًّا عليه السّلام، لكن الغديرَ هو تعيينٌ، وبيعةٌ، وموقفٌ إلزاميٌّ للمؤمنين.
الخلافُ حول الغديرِ
الشيعةُ: يرون أنّ غَدِيرَ خُمٍّ هو النصُّ الصريحُ على إمامةِ عليّ بن أبي طالبٍ عليه السّلام بعد النبيِّ صلى الله عليه وآله، وأنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله بلّغ فيه أمرَ اللهِ بتنصيبِ عليٍّ عليه السّلام إمامًا وخليفةً، لا مجرّدَ محبّةٍ أو نصيحةٍ.
المخالفون: يعترفون بحديثِ الغديرِ، ويقرّون بصحته، لكنهم يفسّرونه على أنه إعلانٌ لمحبةِ عليٍّ عليه السّلام وبيانٌ لمكانته، لا تنصيبًا سياسيًّا أو دينيًّا للقيادةِ بعد النبيِّ صلى الله عليه وآله.
هذا هو جوهرُ الخلافِ: هل “مولى” تعني القائدَ والإمامَ؟ أم تعني المحبَّ والناصرَ؟
الشيعةُ يقولون: السياقُ، والمقامُ، وتوقيتُ النزولِ، وخطبةُ النبيِّ صلى الله عليه وآله، وآياتُ القرآنِ، كلُّها تشيرُ إلى أنّ الحديثَ عن قيادةٍ، لا عن مودةٍ فحسب.
الختام: الغديرُ بوصلةُ العقيدةِ
غَدِيرُ خُمٍّ ليس حدثًا قد مضى، بل ميزانٌ نزنُ به الولاءَ والاتباعَ. إنه الاختبارُ الإلهيُّ الذي ميَّزَ به اللهُ مَن يتبعُ الرسولَ صلى الله عليه وآله تمامَ الاتباعِ، ومَن يُخالفُه.
فواقعةُ الغديرِ ليست حدثًا عابرًا في التاريخِ، بل هي حجرُ الزاويةِ في فهمِ القيادةِ الإلهيةِ للأمةِ بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وآله. إنها رسالةٌ واضحةٌ أنَّ الإسلامَ لا يُفهمُ إلا من خلالِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام، وأنَّ الولايةَ لعليٍّ عليه السّلام ليست خيارًا، بل تكليفٌ شرعيٌّ إلهيٌّ.
فهل نقف عند الغديرِ مستمعين؟ أم ننهضُ معه سائرين؟
هذا هو السؤالُ الذي ما زال يطرقُ أبوابَ الضميرِ الإسلاميِّ منذُ أكثرَ من ألفٍ وأربعمئةِ عامٍ.
المصادر
(1) أخرجه ابن عقدة في الولاية والطبري والذهبي في غدير خم وغيرهم. وأنظر كتاب الغدير للعلامة الأميني.
(2) ذكر في تفسير كلاً من ابن أبي حاتم والثعلبي والواحدي إضافة إلى تاريخ دمشق لإبن عساكر: ج 42 ، ص 237.
(3) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (ج 8، ص 509، ح 8609). والحاكم في المستدرك (طبعة دار الكتب العلمية، ج 3، ص 118، ح 4576). والآجرّي في الشريعة (طبعة مؤسسة قرطبة، ص 351، ح 1765)، والطحاوي في مشكل الآثار (طبعة مؤسسة الرسالة، ج 5، ص 18، ح 1765) وقال عنه: “فهذا الحديث صحيح الإسناد، لا طعنَ لأحدٍ في أحدٍ من رواته”.
(4) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 8 , ص284, وتاريخ مدينة دمشق: ج 42 , ص 237، والغدير للشيخ الأميني: ج 1 , ص 230 وما بعدها.
(5) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 201 و 202. ومناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما نزل من القرآن في علي (عليه السلام) لإبن مردويه الأصبهاني: ص 231. ومناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 137.
(6) مسند أحمد، طبعة الرسالة: ج 30، ص 430، ح 18479. والمصنف لإبن أبي شيبة، بتحقيق كمال الحوت: ج 6، ص 372، ح 32118 . والشريعة للآجري: ج 4، ص 2050، ح 1524.
(7) أنظر الغدير للعلامة الأميني، ونفحات الأزهار في تلخيص عبقات الأنوار: حديث الغدير للسيد علي الميلاني.