فدك: الأرض التي كشفت المظلومية

المقدمة

بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، لم تمضِ إلا أيام حتى اهتزّت الأمة بقضية كشفت حقيقة الصراع على الحق والوصية، ألا وهي قضية فدك. لم تكن مجرد أرض عامرة بالنخيل في شمال الحجاز، بل صارت رمزًا للحق المغصوب، ومشهدًا لمظلومية الزهراء البتول عليها السلام، وعنوانًا لانحراف مبكّر عن نهج القرآن والرسالة.
قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء: 26]. وقد امتثل النبي لهذا الأمر فأعطى فدكًا لفاطمة، لتكون آيةً على موقعها وحقها. لكنّ ما وقع بعد وفاته كشف أنّ القضية أعمق من أرض، بل مسّت موقع أهل البيت في الأمة.

العطاء النبوي

ذكر المفسرون أن الآية الكريمة نزلت في النبي صلى الله عليه وآله، فأعطى ابنته فاطمة فدكًا.

روى السيوطي في الدر المنثور (ج4، ص177): «لما نزلت ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ دعا رسول الله فاطمة فأعطاها فدكًا».

وأورد الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (ج1، ص452): أنّ الآية خاصة بفاطمة عليها السلام.

ونقل البزار وأبو يعلى وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي صلى الله عليه وآله أعطاها فدكًا صريحًا.

هذه النصوص تُبيّن أن فدك لم تكن هبة عادية، بل تطبيقًا لنصّ قرآني، وتثبيتًا لمكانة الزهراء عليها السلام كذوي القربى. ويؤكد المؤرخون أن للزهراء عليها السلام عمالًا يتصرفون في فدك زمن حياة النبي صلى الله عليه وآله، ما يثبت الملكية بالفعل والواقع.

الغصب بعد استشهاد النبي

بعد استشهاد الرسول صلى الله عليه وآله، صادر أبو بكر فدك محتجًا بحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» [صحيح البخاري، كتاب الخمس].
لكنّ هذا القول واجه معارضة من الزهراء عليها السلام لعدة أسباب:

1- إنّ فدك لم تكن إرثًا، بل هبة في حياة النبي صلى الله عليه وآله. وقد روت كتب الفريقين أنّ فاطمة عليها السلام قالت: «إن فدك قد جعلها لي رسول الله» [الاحتجاج للطبرسي].

2- إنّ حديث “لا نورث” مخالف للقرآن الذي نص على وراثة الأنبياء عليهم السلام: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16]، ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: 6].

3- إنّ النبي صلى الله عليه وآله نفسه أوصى بإعطاء الحقوق لأهل بيته. ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «أذكركم الله في أهل بيتي».

بل إنّ بعض الصحابة اعترضوا على هذا القرار. فقد نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج16، ص210) أنّ أبا بكر لم يكتفِ بمصادرة فدك، بل طرد عمال الزهراء عليها السلام منها قسرًا. وهذا ما أورده اليعقوبي في تاريخه (ج2، ص113) أيضًا.

احتجاج الزهراء عليها السلام

لم تسكت الصديقة الكبرى عليها السلام، بل واجهت القوم بخطبتها العظيمة التي روتها المصادر: الاحتجاج للطبرسي، بلاغات النساء لابن طيفور، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
ومن أبرز معالمها:

1- نقض دعوى «لا نورث» بالاستشهاد بالآيات المحكمة.

2- تأكيد أنّ فدك كانت هبة قبل استشهاد النبي صلى الله عليه وآله: «قد جعلها لي رسول الله في حياته».

3- إبراز أنّ القضية ليست مالية: «وما فدك وما قدرها، ونفسي بمحضر الله، ولكن أُريد أن تعلموا أنّي قد ظلمت».

4- فضح البعد السياسي: أنّ مصادرة فدك مقدمة لإبعاد أهل البيت عليهم السلام عن موقعهم الطبيعي.

حتى أنّها قالت: «لقد جئتم شيئًا فريًا، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟» [بلاغات النساء، ص23].

المواقف التاريخية

يروي الطبري في تاريخه (ج3، ص202) أنّ فاطمة طالبت بحقها في فدك، فلم تُعطَ شيئًا.

ويذكر المسعودي في مروج الذهب (ج2، ص308) أنّ فاطمة توفيت وهي ساخطة على أبي بكر وعمر بسبب فدك.

ورد في صحيح البخاري (كتاب الخمس) أنّ فاطمة «هجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت».

ثم تعاقب الحكام السياسيين على مصادرة فدك وردّها. فأعادها عمر بن عبد العزيز لأبناء الزهراء، وقال: «إنها كانت لفاطمة، وأنا أردّها إلى أهلها» [تاريخ اليعقوبي، ج2، ص199].

وهذا يبيّن أن ردّ فدك لاحقًا كان اعترافًا ضمنيًا بكونها مغصوبة.

الدلالات العقائدية والسياسية

البعد القرآني:  الحديث الذي استندوا إليه خالف نصوص القرآن الواضحة.

البعد الروائي:  مطالبة الزهراء عليها السلام نفسها ــ وهي معصومة بنص حديث الكساء: «اللهم هؤلاء أهل بيتي…» [صحيح مسلم] ــ تكفي حجّة على بطلان المصادرة.

البعد السياسي:  مصادرة فدك لم تكن عنادًا ماليًا، بل منعًا لأهل البيت من امتلاك موارد اقتصادية تؤهلهم للقيادة.

البعد التاريخي:  ردّ فدك من قبل بعض الحكام بعد عقود دليل على أنّ الأمة شعرت بثقل المظلومية، واعتبرت الغصب خطأً فادحًا.

الخاتمة

قضية فدك لم تكن نزاعًا على بستان، بل كانت صرخة الزهراء في وجه الانحراف، وشاهدًا على أنّ أهل البيت غُلبوا على حقهم منذ اللحظة الأولى بعد استشهاد النبي. لقد غُصبت فدك، لكن بقيت خطبة الزهراء حجة خالدة، تذكّر الأمة بأنّ التفريط في حق صغير يجرّ إلى خسارة الحق الأكبر.
قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «إنّ فاطمة صدّيقة شهيدة، ولقد غُصبت حقها» [تفسير الإمام العسكري، ص341].
وهكذا، تبقى فدك شاهدًا على مظلومية آل محملامد عليهم ال، ورمزًا خالدًا بأنّ الحق قد يُحاصر، لكنه لا يموت.