من المختصّات الإلهية التّي لم يمنح الله صلاحيتها لأحدٍ من خلقه: كالإيجاد من العدم.
وأمّا الإيجاد من غير العدم، وهو إعطاء الصّورة بتركيب موادّ موجودةٍ أو تفتيت مُركّب؛ فهو خلقٌ، ولكنَّه خلقٌ جديد، أي: تجديد في الخلق، وليس ابتداءً للخلق، أي: ليس خلقاً من عدم، فالنّحات الذّي يعمل تمثالاً، خالق. والرّسام الذّي يرسم صورة، خالق. والمهندس الذّي يعمل بيتاً، خالق. والذّي يتكلم بكلمة، خالق لكلمة مسموعة، والذّي يكتب كلمة، خالق لكلمة مرسومة، والذّي يتحرك أيّما تحرك، خالق لتلك الحركة، وكلّ من يركّب الأشياء أو يُفكِكُها، خالق …
ولم ينزع اللهُ صفة (الخالق) عن غيره، وإنّما اعتبرهم خالقين، وأعلن أنَّه أحسنهم، لأنّه يخلق من عدم فيما يبتدئ، ويَتقن ما يخلق فيما يركّب: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
فالخلق من العدم، من المختصات الإلهية، وادّعاؤه لغيره شرك.
وكذا المغفرة، فإنها مِن المختصات الإلهية، لقوله تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) ؟!.
أما: معرفة الغيب، وشفاء المريض، وإحياء الميت، وإيجاد المخلوق الحي، وما شابه هذه الأمور … فليس مِن المختصات الإلهية، وإنّما هي مِن الأمور التّي منح اللهُ صلاحيتها لغيره من أوليائه، كـ(عيسى بن مريم عليه السّلام) الذّي منحه الله هذه الصّلاحيّات، وسجله في القرآن بقوله: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين).
و(..بِإِذْنِ اللّهِ..) إشارة إلى أنّه لم يكُن مستقلاّ بالتّصرف، وإنَّما كان يتصرّف بمقتضى الصّلاحيّة الممنوحة له من قِبَل الله، ولكنّه يبقى هو المتصرّف، كالوزير الذّي يتحرك بإرادته المستقلّة ولكن من خلال صلاحيّاته. ونعني بمنح صلاحيّة شيءٍ؛ إعطاء القدرة على ذلك الشّيء، فالذّي يتكلم أو يتحرك، إنّما يفعل ذلك بالصّلاحيّة التّي منحها الله له، أي: بالقدرة التّي أعطاها له، ولولا تلك القدرة لم يستطِع كلاماً ولا تحركاً، فكلّ عملٍ يعمله الإنسان أو غيره، إنّما يعمله بإذن الله، أي: بإقدار الله إيّاه، ولولا إذن الله كان عاجزاً عنه:
أ ـ من هنا … يبدو أن عيسى بن مريم عليه السَّلام، عندما كان يخلق الطّير أو يحيي الموتى، إنّما كان يعمله هو، ولم يكُن يسأل الله أن يعمله. فهو يقول: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم… وَأُحْيِـي الْمَوْتَى). فدوره دور القادر، الذّي يتصرّف بإرادة مستقلّة، حسب رويّته الخاصّة.
ب ـ تركيزه على (…بِإِذْنِ اللّهِ…) لا يعني أنّه كان يستأذن الله في أيّ تصرّف يؤديه، وينتظر الإذن. فخلقُ الطّير، وإحياء الأموات .. بالنّسبة إليه كالتكلم والمشي … بالنّسبة إلينا، لا يحتاج إلى استئذان لكل شيء، وكصرف الأعمال بالنّسبة إلى الوزير. ولكنّنا لا نقول بإذن الله قبل كل عمل نعمله، والوزير لا يقول بإذن رئيس الدّولة قبل كلّ عملٍ يَصْرِفَه، لأن المقاييس في مجالاتِنا وفي مجالات الدّولة أصبحت معروفة بالقدر الكافي.
بينما المقاييس بالنّسبة إلى الله وأوليائه لم تكُن معروفة بالقدر الكافي، فما كان أحدٌ من الأولياء يعمل (معجزة) إلّا ويتقدم إليه بعض الجُهّال ليقولوا له: (أنت الله) فكان لابدّ من التّأكيد على أنّه (عبدٌ لله) يعمل بالقدرات التّي وهبها الله إيّاه، ولولاها لكان عاجزاً. ورغم ذلك، قالوا له ما لا ينبغي إلّا لله وما لم يَدعِه لنفسه، فكيف إذا لم يكُن يركّز على (…بِإِذْنِ اللّهِ…) في معجزاته؟!
ج ـ من هذا النوع، ما كان الأولياء يعملونه قبل معجزاتهم.
فمثلاً: كان النّبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام يتوضّؤون ويصلّون ركعتين أو ركعات، أو يسبّحون ويهلّلون، قبل أداء المعجزة. لا لأنّ صدور المعجزة منهم كان متوقفاً على الوضوء والصّلاة، فالمعجزات بالنّسبة إليهم من الأعمال الاعتيادية، تماماً … كالتّكلم والمشي بالنّسبة إليهم أو بالنّسبة إلينا، ولكنّهُم كانوا يفعلون ذلك تأكيداً لعبوديّتِهم مِن أجل صيانة عقائد النّاس، حتّى لا يغالوا فيهم.
وإذا كان عيسى بن مريم عليه السّلام يجهر بمثل هذه الصّلاحيّات، وليس إلّا أحد أولي العزم عليهم السّلام، فلا مجال للإستنكار أو الإستغراب، إذا رُوِيَت – أو طلبنا – تصرّفات مماثلة، مِمّن هو في مستوى عيسى ابن مريم عليه السَّلام من أولي العزم عليهم السّلام أو مِمّن هو أعظم مِن عيسى ابن مريم عليه السّلام كالنّبي محمد صلّى الله عليه وآله.
منقول من كتاب خواطري عن القرآن الكريم، للسيد حسن الشيرازي؛ في تفسير سورة المائدة، آية 35.