مسلم بين عقيل: بين بيعة الآلاف وخيانة الساعات الأخيرة

ما جرى بعد دخول مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة حتى استشهاده..

رسول الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل: بين بيعة الآلاف وخيانة الساعات الأخيرة
بعد أن انهالت رسائل الكوفيين على الإمام الحسين (عليه السلام) تتعهد بالطاعة وتطالبه بالمجيء إلى العراق، قرر أن يبعث ثقته وسفيره، ابن عمه مسلم بن عقيل، لاستطلاع الموقف والتمهيد لقدومه، وقال له كما نقله ابن أعثم: “إنّي موجهك إلى أهل الكوفة وهذه كتبهم إلي، وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامض على بركة الله حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها وادع الناس إلى طاعتي وأخذلهم عن آل أبي سفيان، فإن رأيت الناس مجتمعين على بيعتي فعجل لي بالخبر حتى أعمل على حسب ذلك إن شاء الله تعالى“.
دخل مسلم (عليه السلام) الكوفة متخفيًا، كما ينقل الشيخ المفيد في “الإرشاد”، ونزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي، ثم انتقل إلى دار هاني بن عروة المرادي، وهناك بدأ الناس يتقاطرون عليه.
قال المفيد: “فبايع له من الناس ثمانية عشر ألفًا، وأقام بالكوفة مستترًا، يبايعه الناس للحسين (عليه السلام) ويأخذ عهودهم ومواثيقهم”.
وكتب مسلم إلى الحسين (عليه السلام) بعد تحقق البيعة الواسعة: “أما بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، والسلام“.

لكن التقلّب السريع في المزاج السياسي للكوفة، وخيانة الطبقة الحاكمة فيها قلب الوضع فيما بعد.
فما إن بلغ يزيد بن معاوية الخبر، حتى قرّر أن يرسل عبيد الله بن زياد – والي البصرة القاسي – واليًا على الكوفة أيضًا، وأمره بقمع أي تحرك مؤيد للحسين.

دخل عبيد الله الكوفة متخفيًا بظلام الليل، كما في رواية الطبري، وبدأ بالسيطرة على مفاصل المدينة بأسلوب الرعب، مستغلًا القبلية والمال والبطش.
فجأة، بدأت خيوط البيعة تنهار، وتقلصت أعداد المؤيدين لمسلم بن عقيل (عليه السلام) .

كتب ابن زياد يخيف الناس ويغري زعماء القبائل، حتى قال المفيد: “فخذل الناس مسلمًا، وتفرقوا عنه، حتى لم يبق معه إلا عشرة، ثم خرجوا عنه وتفرّقوا، وبقي وحيدًا في أزقة الكوفة”.
وبينما كان يسير تائهًا بين الطرقات لا يجد بيتًا يؤويه، التجأ إلى دار امرأة من الشيعة اسمها طوعة، فأدخلته خفية، وكان ابنها من جواسيس ابن زياد، فأبلغ الوالي بوجوده.
بعث ابن زياد جيشًا كاملًا لاعتقال رجلٍ واحد، وحين خرج مسلم بسيفه قاتلهم بشجاعة نادرة. تقول الروايات التي نقلها المفيد والطبري: “قاتلهم مسلم قتال الأبطال حتى أثخن بالجراح، ثم أُخذ أسيرًا يُقاد إلى قصر الإمارة”.
دخل مسلم على ابن زياد وهو ينزف، مرفوع الرأس، ثابت القلب، وقال كلمته الأخيرة حين أمر بقتله: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. أبشّر نفسي بالقتل”.
ثم التفت إلى عمر بن سعد، وقال: “أوصِ إلى الحسين أن يرجع، فإنّي رأيت من هؤلاء الغدر، وإنّهم يقتلونه“.

وهنا كانت الصدمة السياسية الكبرى: أُعدم مسلم بن عقيل (عليه السلام) بأمر مباشر من ابن زياد، وألقي جسده من فوق قصر الإمارة، بينما كانت الأمة لا تزال تردد صيحة البيعة التي خذلتها.
وقد قال المفيد: “قتله بيد بكر بن حمران، وأمر فأُلقي جثمانه من فوق القصر، ودفن عند الباب الغربي من مس
جد الكوفة”.

هكذا انتهت أولى صفحات النهضة الحسينية في الكوفة. بايع الآلاف، ثم خافوا، ثم خانوا. وبقي سفير الإمام (عليه السلام) وحده بين الذل والقتل، فاختار الشهادة.
إنها لحظة تختصر مأساة كربلاء: حسين (عليه السلام) لم يصل بعد، لكن خذلانه بدأ قبل أن تطأ قدماه أرض العراق!

تلَقّى الإمام الحسين (عليه السلام) خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في منزل الثعلبيّة أثناء مسيره من مكة إلى الكوفة، وكان لهذا الخبر وقعٌ بالغ الحزن، ومفصليًا في مسار الثورة، ووردت تفاصيل ذلك منا نقله الشيخ المفيد: “فلما كان في الثعلبية جاءه خبر مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، وأنّهما قتلا، فاسترجع (أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون)، وجعل يسترجع مرارًا، فقال له أصحابه: ما ذاك يابن رسول الله؟ قال: «عَزَّ علَيَّ مصرع مسلم، وهانئ، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف غير مُثْرَم».”
لم يكن ردّ فعل الإمام مجرد حزن عاطفي، بل إعلان عن الانكشاف السياسي والميداني.
استرجع مرارًا، ما يدل على عمق الفجيعة. ثم أعلن صراحةً أن شيعته قد خذلوه، لكنه لم يتراجع.
وهذا الموقف يُبَرِز: وفاءه (عليه السلام) لمسلم الذي بعثه سفيرًا عنه. ومنحه الإذن الصريح لمن لا يريد المواصلة أن يرجع، مما يدل على صدقه، ووضوح مشروعه.
قال الطبري: “فقال بنو عقيل: لا نرجع حتى نأخذ بثأر مسلم، أو نموت دونه.”
وقال المفيد: “ثبت معه الصفوة، وكان كل من أراد الرجوع رجع، ولم يُكرِه أحدًا.”
هذا الحدث غربل الناس، فبقي مع الحسين (عليه السلام) الصفوة من أصحابه الذين استعدّوا للموت دون تردد.