مناظرات هشام بن الحكم في الإمامة

تمهيد:

يُعد هشام بن الحكم (المتوفى 199هـ) من أبرز متكلمي الشيعة في القرن الثاني الهجري، ويعتبر من أوئل من أصل علم الكلام الإمامي، وقد تميز بذكائه الفطري وقوة حجته وجرأته في مجالس المناظرة أمام المعتزلة والمرجئة والنواصب والزنادقة وحتى رجال الدولة العباسية. وكان له دور حاسم في ترسيخ المفاهيم العقلية للإمامة، وسجلت له مناظرات كثيرة في هذا الشأن. وسنستعرض أبرز مناظراته حول الإمامة:


 

1. مناظرته حول “ضرورة وجود إمام في كل زمان” مع شيخ القدرية والمعتزلة في عصره

قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد ، وجلوسه في مسجد البصرة ، وعَظُم ذلك عليَّ ، فخرجت إليه ، ودخلت البصرة يوم الجمعة ، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتز بها من صوف وشملة مرتد بها ، والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتيّ ، ثم قلت : أيها العالم أنا رجل غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة ؟
قال : أسأل !
قلت له : ألك عين ؟
قال يا بني أي شيء هذا من السؤال ، إذاً كيف تسأل عنه ؟
فقلت : هذه مسألتي .
فقال : يا بني ! سل وإن كانت مسألتك حمقى .
قلت : أجبني فيها .
قال : فقال لي : سل !
فقلت : ألك عين ؟
قال : نعم .
قلت : قال : فما تصنع بها ؟
قال : أرى بها الالوان والاشخاص .
قال : قلت : ألك أنف ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أشم به الرائحة .
قال : قلت : ألك لسان ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أتكلم به .
قال : قلت : ألك أذن ؟
قال : نعم .
قلت : فما تصنع بها ؟
قال : أسمع بها الاصوات .
قال : قلت : ألك يدان ؟
قال : نعم .
قلت : فما تصنع بهما ؟
قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللّيّن من الخشن .
قال : قلت : ألك رجلان ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع بهما ؟
قال : أنتقل بهما من مكان إلى مكان .
قال : قلت : ألك فم ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها .
قال : قلت : ألك قلب ؟
قال : نعم .
قال : قلت : فما تصنع به ؟
قال : أميّز به كلما ورد على هذه الجوارح .
قال : قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب ؟
قال : لا .
قلت : وكيف ذاك وهي صحيحة سليمة ؟
قال : يا بني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته ، ردّته إلى القلب ، فتيقن بها اليقين ، وأبطل الشك .
قال : فقلت : فإنما أقام الله عز وجل القلب لشك الجوارح ؟
قال : نعم .
قلت : لابد من القلب وإلاّ لم يستيقن الجوارح .
قال : نعم .
قلت : يا أبا مروان ، إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماماً ، يصحح لها الصحيح ، وينفي ما شكّت فيه ، ويترك هذا الخلق كلّه في حيرتهم ، وشكهم ، واختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك ، تردّ اليه حيرتك وشكك ؟ ! .
قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً .

المصدر: الكافي للشيخ الكليني: ج 1، ص 169 – 170.


 

2. مناظرته حول “صفات الإمام” مع أحد رؤوس المعتزلة

قال ضرار بن عمرو الضبي لهشام: كيف تعقد الإمامة؟
قال هشام: كما عقد الله النبوة.
قال: فإذا هو نبي؟
قال هشام: لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء، والإمامة يعقدها أهل الأرض، فعقد النبوة بالملائكة، وعقد الإمامة بالنبي، والعقدان جميعا بإذن الله عز وجل.
قال: فما الدليل على ذلك؟
قال هشام: الاضطرار في هذا.
قال ضرار: وكيف ذلك؟
قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول – صلى الله عليه وآله – فلم يكلفهم ولم يأمرهم، ولم ينههم، وصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها، أفتقول هذا يا ضرار أن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله – صلى الله عليه وآله
قال: لا أقول هذا.
قال هشام: فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء، في مثل حد الرسول في العلم، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا، أن الناس قد استحالوا علماء، حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟
قال: لا أقول هذا، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال: فبقي الوجه الثالث لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط، ولا يحيف (1)، معصوم من الذنوب، مبرأ من الخطايا، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد.
قال: فما الدليل عليه؟
قال هشام: ثمان دلالات أربع في نعت نسبه، وأربع في نعت نفسه.
فأما الأربع التي في نعت نسبه: بأن يكون معروف الجنس، معروف القبيلة، معروف البيت، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة، فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب، الذين منهم صاحب الملة والدعوة، الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فتصل دعوته إلى كل بر فتصل دعوته إلى بر وفاجر، وعالم وجاهل، ومقر ومنكر، في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى علي الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا، ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة، ولما كثر أهل هذا البيت، وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه: أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه، وأحكامه، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها وأن يكون أشجع الناس، وأن يكون أسخى الناس.
قال: من أين قلت: إنه أعلم الناس؟
قال: لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود، فمن وجب عليه القطع حده، ومن وجب عليه الحد قطعه، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا.

قال: فمن أين قلت: إنه معصوم من الذنوب؟ قال: لأنه إن لم يكن معصوما من الذنوب، دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه، ويكتم على حميمه وقريبه، ولا يحتج الله عز وجل بمثل هذا على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الناس؟
قال: لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب، وقال الله عز وجل: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] فإن لم يكن شجاعا فر فيبوء بغضب من الله، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجة لله على خلقه.
قال: فمن أين قلت: إنه أسخى الناس؟
قال: لأنه خازن المسلمين، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها، فكان خائنا، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن.

المصدر: كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ج 1، ص 393 – 395.

 

3. كلامه حول العصمة مع ابن أبي عمير

عن محمد بن أبي عمير قال: ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام (عليه السلام)، فإني سألته يوما عن الإمام أهو معصوم ؟
فقال: نعم.
قلت له: فما صفة العصمة فيه وبأي شئ تعرف ؟
فقال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه ولا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منفية عنه لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا، وهي تحت خاتمه لأنه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص، ولا يجوز أن يكون حسودا لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه وليس فوقه أحد فكيف يحسد من دونه، ولا يجوز أن يغضب لشئ من أمور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله عز وجل، فإن الله فرض عليه إقامة الحدود، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا رأفة في دينه حتى يقيم حدود الله، ولا يجوز له أن يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة لأن الله عز وجل قد حبب إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا.
فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح، وطعاما طيبا لطعام مر، وثوبا لينا لثوب خشن، ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية ؟

المصدر: الأمالي للشيخ الصدوق: ص 731 – 732.

 

4. مناظرته حول أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) 

قال رجل من المتكلمين لهشام: لم فضلت عليا على أبي بكر؟ والله يقول: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. فقال هشام: فأخبرني عن حزنه في ذلك الوقت، أكان لله رضى أم غير رضى؟ فسكت. فقال هشام: إن زعمت أنه كان لله رضى فلم نهاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: ” لَا تَحْزَنْ ” أنهاه عن طاعة الله ورضاه؟ وإن زعمت أنه كان لله غير رضى، فلم تفتخر بشئ كان لله غير رضى؟ وقد علمت ما قد قال الله تبارك وتعالى حين قال: (أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ). ولكنكم قلتم وقلنا وقالت العامة: ” الجنة استأنست إلى أربعة نفر: إلى علي بن أبي طالب، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة: ” إن الذابين عن الإسلام أربعة نفر: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وأبو دجانة الأنصاري، وسلمان الفارسي “، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة: “إن القراء أربعة نفر: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة: ” إن المطهرين من السماء أربعة نفر: علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين “. فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة: ” إن الأبرار أربعة نفر: علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين “. فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة: ” إن الشهداء أربعة نفر: علي بن أبي طالب، وجعفر وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب “. فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة، وتخلف عنها صاحبكم، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

المصدر: الاختصاص للشيخ المفيد: ص 96 – 98.


 

خاتمة:

إن مناظرات هشام بن الحكم تُمثل اللبنة الأولى في بناء علم الكلام الإمامي، وتُظهر بوضوح كيف وظّف العقل والمنطق لإثبات أنّ الإمامة أصل قائم على النص والعصمة واللطف، لا على الشورى أو الهوى. وكانت حججه مؤثرة حتى في خصومه، ولا تزال أساسًا للفكر الإمامي الكلامي حتى اليوم.