كيف ساهمت الدول الشيعية في نشر التشيع وإحياء الشعائر؟

الدول الشيعية ودورها في نشر التشيع وخدمة مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

أما بعد؛ فإنَّ الدول الشيعية ــ وإن تفاوتت في امتدادها الجغرافي وقوتها السياسية ــ مناراتٍ مضيئة في تاريخ التشيع، وعوامل حيوية في انتشاره واستقراره، وكان لها من الأثر العقائدي والعلمي ما لا يُستهان به. ويكفي أن نعلم أن كثيرًا من مراكز التشيع في عالمنا الإسلامي اليوم ترجع جذورها إلى تلك اللحظات التاريخية التي برز فيها حكمٌ شيعيٌّ رشيدٌ أو راعٍ، مثل الدولة البويهية، أو الحمدانية، أو إمارة آل مزيد، أو الدولة القاجارية، وغيرها من التجارب التي أعادت للمذهب صوته وحضوره.

إنّ هذا البحث يتناول – بعين فاحصة وقراءة منتمية – خمسًا من أبرز هذه الدول الشيعية، وهي: الدولة الحمدانية، الدولة البويهية، إمارة آل مزيد، الدولة القاجارية، مع لمحة عن العلماء في ظل كل منها، ومدى مساهمتها في:

  • نشر الفكر الإمامي الاثني عشري
  • دعم العلماء والمحدثين والمتكلمين
  • إعمار المراقد المقدسة لأهل البيت (عليهم السلام)
  • إحياء الشعائر الحسينية والغديرية
  • تأمين البيئة السياسية والاجتماعية لنمو المرجعية الشيعية

ولا يخفى على القارئ الكريم أن الحديث عن هذه الدول ليس تمجيدًا لأشخاص أو طموحات سياسية، بل هو قراءة في محطات مفصلية ساهمت في نقل التشيع من حالة الكتمان والتقية، إلى أجواء الحضور والبناء والتأثير. وفي كل تجربةٍ من هذه التجارب كان هناك تفاعل بين السلطة والعلماء، بين الدولة والدين، بين الحاكم والفقيه، مما أفرز نتائج مركبة جديرة بالتأمل والتوثيق.

ففي الدولة الحمدانية، نُقل التشيع إلى قلب الشام، أرض الأمويين، بجرأةٍ ثقافية وشعرية.

وفي الدولة البويهية، احتضنت بغداد – لأول مرة – فقهاء الإمامية وأُنشئت الحوزة العلنية، وتحوّلت عاشوراء إلى رمز جماهيري.

وفي إمارة آل مزيد، تأسست الحِلّة كعاصمة علمية أفرزت أعلامًا كابن إدريس والعلامة الحلي.

وفي الدولة القاجارية، بلغت المرجعية الفقهية من القوة ما مكّنها من مواجهة الاستعمار والدكتاتورية معًا، وأعيد إعمار المراقد وتوسيع الحوزات.

1- الدولة الحمدانية (293–394هـ / 905–1004م): بوابة التشيع نحو الشام، وتجربة الولاء في وجه البيزنطيين

في خضم تصارع القوى السياسية في المشرق الإسلامي بعد ضعف الدولة العباسية، برزت الدولة الحمدانية كواحدة من أوائل التجارب الشيعية التي مزجت بين الولاء العقدي والممارسة السياسية. وقد مثّلت هذه الدولة الإمامية منعطفًا مهمًا في التاريخ الشيعي، إذ إنها لم تكن مجرد كيانٍ يحكم بقوة السيف، بل كانت مشروعًا ثقافيًا وعقائديًا بامتياز، حمل راية أهل البيت (عليهم السلام) من أرض العراق إلى قلب الشام【1】.

تأسست الدولة الحمدانية سنة 293هـ، على يد الحسن بن أبي الهيجاء الحمداني، غير أن ناصر الدولة وسيف الدولة ــ ابني المؤسس ــ هما من أرسيا معالم هذه الدولة، وبسطا سلطانها على الموصل والجزيرة وحلب والشام. وكان أبرز حكامها سيف الدولة علي بن عبد الله الحمداني (ت 356هـ)، الذي نقل العاصمة إلى حلب، وواجه الروم بشجاعة، وفي الوقت نفسه أرسى قواعد التشيع في أرض كانت، حتى وقت قريب، معقلًا للعداء لأهل البيت (عليهم السلام) 【2】.

لقد كان سيف الدولة من الموالين المخلصين من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فرفع رايتهم، وأظهر ولايتهم في خطب الجمع والمناسبات، وأمر بذكر اسم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) علنًا على المنابر، ودعا الناس إلى حبه واتباعه. وقد شهدت حلب في عهده نهضة شيعية ثقافية وعقائدية كبرى، انتقلت بها من الطابع الأموي إلى فضاءٍ شيعي متماسك، وصار يُعرف في بعض كتب التاريخ أن “حلب في زمن سيف الدولة كانت أكثرها شيعة”. 【3】

ومن الملامح الجليّة لهذا المشروع الولائي، اهتمام الدولة الحمدانية بإحياء المناسبات الشيعية علنًا. فقد كان يوم الغدير يُحتفل به في البلاط الحمداني، وتُلقى فيه القصائد الولائية【4】. كما شُجعت إقامة مجالس العزاء في محرم، ورُوّج لرثاء الإمام الحسين (عليه السلام) في الدواوين والأوساط الأدبية. ولعل الشاعر أبا فراس الحمداني، ابن عم سيف الدولة، أبرز من عبّر عن هذا الحس الولائي في قصائده، ومن ذلك قوله:

“ولستُ على الأعقاب أَمشِي قَهقرى    ولكن على أقدامِكم أتذلّلُ” 【5】

وقد احتضن سيف الدولة نخبة من الشعراء والأدباء الشيعة، أو المتعاطفين مع أهل البيت (عليهم السلام)، ومنهم المتنبي، الذي رغم عدم ثبوت تشيّعه، إلّا أنه كتب في مدح الإمام علي (عليه السلام) ووصفه بأوصاف تُظهر ولاءً واضحًا، في جوٍّ أدبي وثقافي لم يكن ليظهر لولا الحاضنة الشيعية التي وفّرها الأمير【6】.

وفي الجانب العلمي، لم تكن حلب حوزةً علمية بالمعنى الاصطلاحي، لكن كانت فيها حلقات للعلم والحديث والجدل العقدي. وشجّعت الدولة الحمدانية العلماء الشيعة على المناظرة والكتابة، ووفّرت بيئة آمنة لنشر الكتب والمؤلفات الشيعية، بل ساهمت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في تسهيل تنقّل العلماء بين الكوفة والري وبغداد وحلب، مما ساعد على توسيع رقعة التشيع العلمي. وقد تزامن عصر الدولة الحمدانية مع بروز علماء عظام، مثل ابن قبة الرازي، والشيخ الكليني (ت 329هـ)، والشيخ الصدوق (ت 381هـ)، والشيخ المفيد (ت 413هـ)، وإن لم يكونوا جميعًا في حلب، إلا أن مناخ تلك المرحلة مهّد لانتشار آثارهم【7】.

وفي الجانب السياسي، اتسمت علاقة الحمدانيين بالمخالفين من العامة بطابع من الحكمة والتوازن، فلم يفرضوا التشيع بالقوة، ولم يُسجل عليهم اضطهاد مذهبي، بل عيّنوا قضاة منهم إلى جانب القضاة الشيعة، وراعوا الخصوصيات الاجتماعية في المناطق المختلطة. وقد اعتمدوا أسلوب الجدال العلمي والحضور الثقافي، بدل القمع والوصاية، وهو ما جعل التشيع في عهدهم مقبولًا في المجتمع الشامي بصورة تدريجية【8】.

أما علاقتهم بالمراقد المقدّسة، فلم تكن مباشرة أو كبيرة، بحكم بُعدهم الجغرافي عنها، لكنهم سهلوا الزيارات، وأمّنوا طرق المسير من الشام والموصل إلى كربلاء والنجف، وساهموا في دعم الزائرين مادّيًا ومعنويًا، وفي بعض الروايات المتفرقة يُذكر أن بعض أمرائهم أرسلوا الصدقات والنذور إلى العتبات الطاهرة【9】.

لقد مثّلت الدولة الحمدانية نقلة نوعية في انتقال التشيع إلى فضاءات جديدة خارج بيئته التقليدية. وإذا كان العراق وإيران موطنًا طبيعيًا للمذهب، فإن حلب والشام، بفضل الحمدانيين، دخلت في أفقٍ جديد من الولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، واحتضنت التشيع بعمق، حتى بعد زوال الدولة.

وقد صدق من قال: إنّ الدولة الحمدانية لم تكن طويلة العهد، لكنها كانت عميقة الأثر، رسّخت حب أهل البيت (عليهم السلام) في قلب الشام، وخلّدت قصائد الولاء في بلاط حلب، ومهّدت الطريق لمن بعدهم في مسيرة النور.

2- الدولة البويهية (320–447هـ / 932–1055م): الدولة التي احتضنت الفقه الإمامي وأعلنت شعائر أهل البيت (عليهم السلام) في قلب بغداد

تمثّل الدولة البويهية واحدة من أرفع التجارب السياسية الشيعية في التاريخ الإسلامي، فقد امتازت دون غيرها بكونها أول سلطة شيعية إمامية تمكّنت من السيطرة على عاصمة الدولة العباسية، وأدارت شؤون الدولة بمعزل عن سلطة الخليفة الرمزية، مع المحافظة على التوازن الديني والسياسي في ظل واقعٍ متعدّد المذاهب【10】.

تأسست هذه الدولة على يد الأخوة الثلاثة: علي (عماد الدولة)، الحسن (ركن الدولة)، وأحمد (معز الدولة)، من أسرة فارسية الأصل تنتمي إلى منطقة الديلم【11】. وكان تأسيسها في بدايات القرن الرابع الهجري، وقد اتخذ كل منهم جزءًا من إيران والعراق مقرًا لحكمه، غير أن البصمة الأكبر في خدمة المذهب وتحقيق الحضور الشيعي كانت في عهد معز الدولة البويهي الذي دخل بغداد سنة 334هـ، وسيطر على السلطة الفعلية، وأبقى الخليفة العباسي مجرد رمز لا يملك من أمره شيئًا【12】.

لقد تميز البويهيون بانتمائهم العلني للمذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري، وبرز ذلك في أقوالهم وأفعالهم. غير أنهم ــ بحكمة سياسية ــ لم يفرضوا المذهب بالقوة، بل دعموا حضوره علميًا وفقهيًا وشعائريًا، ووفّروا لعلماء الشيعة بيئة غير مسبوقة من الحماية والتكريم【13】. لقد كان عهدهم عصر ازدهار الحوزات العلمية الأولى، وفي مقدمتها حوزة بغداد، التي كانت تعج بأعلام كبار مثل الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وغيرهم من أعمدة المدرسة الإمامية【14】.

ولعلّ أبرز ما ميّز حكمهم، تشجيع إقامة الشعائر الحسينية علنًا، فقد أصبح يوم عاشوراء يوم حداد رسمي في العاصمة الإسلامية بغداد، حيث تُغلق الأسواق، وتُقام المجالس، ويُرفع الصوت بالنياحة والبكاء، في مشهد لم تعرفه بغداد من قبل【15】. بل إنّ الغدير أيضًا أصبح مناسبة رسمية تُتبادل فيها التهاني، وتُنشد القصائد في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، مما شكّل نقلة نوعية في الحياة الدينية العامة【16】.

وفي ميدان إعمار المراقد، كان للبويهيين دور عظيم، فقد أعادوا بناء مشاهد الأئمة (عليهم السلام) التي خرّبها الأمويون والعباسيون، وشيّدوا القباب والأروقة، وزيّنوا الأضرحة في النجف الأشرف وكربلاء والكاظمية المقدّستين【17】. وتُذكر في كتب التاريخ أعمال الترميم الكبرى التي أُجريت في مشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وفي النجف الأشرف، في عهد معز الدولة وأعقابه، مما شجّع على زيارة هذه الأماكن وإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) فيها بعد عصور من المنع والاضطهاد【18】.

أما عن العلاقة بين الدولة والعلماء، فقد كانت من أرقى صور التعاون في تاريخ التشيع. لقد احتضن البويهيون علماء الشيعة، ورفعوا من شأنهم، وجعلوا لهم مكانة في بلاط الحكم، بل في إدارة شؤون الدولة أحيانًا. فالشيخ المفيد كان يحظى بزيارات شخصية من عضد الدولة، ويحضر مجالسه، ويستشيره في النوازل【19】. كما تسلّم السيد المرتضى قيادة مدرسة بغداد الكلامية، وتمتّع بمكانة لا تضاهى في الوسط العلمي والديني، وكما أصبح نقيب الطالبيين، وبعده السيد الرضي.

ومن بعدهم جاء الشيخ الطوسي شيخ الطائفة، الذي بلغ في ظل البويهيين منزلة علمية رفيعة، ونُصّب على كرسي الكلام في بغداد، وصار يُقصده طلبة العلم من المذاهب كافة، حتى إذا زالت الدولة البويهية، وأقبلت الدولة السلجوقية المتشددة، أُحرقت داره وكرسيه ومكتبته، فهاجر إلى النجف الأشرف، وأسّس هناك الحوزة التي بقيت إلى يومنا هذا【20】.

لقد شكّل هذا التعاون بين الدولة والعلماء أساسًا متينًا لنشوء النظام الفقهي الإمامي، وترسيخ أصول العقيدة الإثني عشرية، وبناء بنية علمية قوية للمذهب، بحيث يمكن القول بلا تردد: إنّ مدرسة بغداد الشيعية في عهد البويهيين كانت أمّ الحوزات، ومنها انبثقت المرجعيات العلمية الكبرى التي نهضت فيما بعد في النجف الأشرف وقم المقدّسة【21】.

وأن البويهيين قدّموا نموذجًا سياسيًا شيعيًا، احترم المرجعية، واحتضن العلماء، ونشر الفكر الشيعي بالحكمة والبصيرة، ودون قسر أو تعصب، ما جعلهم مقبولين حتى في الأوساط الأخرى【22】.

3- إمارة آل مزيد (403 – 545هـ / 1012 – 1150م): من التأسيس إلى التمكين: الحِلّة عاصمة التشيع الجديدة

من بين الإمارات الشيعية التي ظهرت في القرون الهجرية الوسطى، تميّزت إمارة آل مزيد بمسارٍ عربيٍّ نقي، وأثرٍ علميٍّ ممتد، وقاعدةٍ فقهيةٍ لم تزل قائمة إلى اليوم. فهذه الإمارة، التي أسّسها علي بن مزيد الأسدي في أواخر القرن الرابع الهجري، تمكّنت من تأسيس أول مدينةٍ شيعية خالصة في العراق هي الحِلّة، وجعلت منها حاضرة علمية مميزة، وبيئة مواتية لانتقال التشيع من الكوفة التي خمد نجمها، إلى مركز جديد أكثر أمنًا وتأثيرًا【23】.

كانت قبيلة بني أسد ــ التي ينتمي إليها آل مزيد ــ ذات ولاءٍ قديم لأهل البيت (عليهم السلام)، ويكفيها شرفًا أنها القبيلة التي تولّت دفن الإمام الحسين (عليه السلام) بعد كربلاء【24】. وقد حافظ أمراؤها على هذا الولاء، إذ تبنّوا المذهب الإمامي الاثني عشري بوضوح، وأعلنوا شعائر التشيع في إمارتهم، معتمِدين على دعم البويهيين في البداية، ثم على الاعتراف العباسي شكليًا مقابل ولاء سياسي محدود【25】.

بلغت الإمارة ذروتها في عهد الأمير صدقة بن منصور بن مزيد (ت 488هـ)، الذي لقّبه الخليفة العباسي بـ«ملك العرب»، لما بلغه من قوّة وسطوة【26】. وقد سعى الأمير صدقة إلى الاستقلال الكامل عن السلاجقة والعباسيين، لكنه استُشهد في معركةٍ ضدّ بركياروق السلجوقي، لتبدأ الإمارة بعده مرحلة الضعف التدريجي. إلا أن إرثها العلمي والمذهبي بقي ممتدًا، خاصة في مدينة الحِلّة【27】.

فقد شكّلت الحِلّة في عهد آل مزيد مركزًا فريدًا لنشر التشيع، حيث انتقل إليها العلماء الشيعة من الكوفة وبغداد بسبب الفتن والقمع، ووجدوا فيها بيئة آمنة للدراسة والتأليف. وقد شجّع الأمراء المزيديون بناء المساجد، والمدارس، والحسينيات، ووفّروا الدعم المادي والعسكري لحماية الزوّار والعلماء، مما أرسى أساسًا قويًا لمدرسة فقهيّة جديدة نُسبت لاحقًا إلى الحِلّة【28】

ومن أبرز أعلام هذه البيئة:

  • الشيخ ورّام بن أبي فراس الأسدي (ت 605هـ): من أبناء القبيلة الحاكمة، وله كتاب تنبيه الخاطر الذي بقي مرجعًا أخلاقيًا وتربويًا مشهور ويعرف بمجموعة ورام【29】.
  • الشيخ ابن إدريس الحلي (ت 598هـ): من كبار المجددين في الفقه الإمامي، وصاحب كتاب السرائر【30】.

وقد استفاد العلماء من الأمان السياسي الذي وفّره آل مزيد، فانتشرت المؤلفات، وأُسِّست مكتبات، وظهر أسلوب الحلقات العلمية المنتظمة، مما أوجد أساسًا للحوزة الحلية، التي امتد تأثيرها لقرون، وتخرّج منها كبار الفقهاء، كالعلاّمة الحلي، والمحقق الحلي، في العصور اللاحقة【32】.

أما في مجال الشعائر، فقد أظهر آل مزيد شعائر التشيع علنًا، فشُيّدت الحسينيات، وأُقيمت مواكب العزاء في الحِلّة، وارتبط اسم المدينة بالمناسبات الولائية، فصارت الحِلّة تُعرف في كتب التاريخ بـ”مدينة الشيعة”، وبقيت على هذا الوصف حتى العصور الحديثة【33】.

ولم يكن اهتمامهم بالمذهب محصورًا بالحِلّة فحسب، بل امتد إلى دعم الزائرين لمراقد كربلاء والنجف، حيث كانت الإمارة تسيطر على الطرق المؤدية لهذين المرقدين الشريفين، وتؤمّن الحماية للقوافل، وتشارك في بعض أعمال الصيانة والتوسعة عبر الصدقات والأوقاف【34】.

ويمكن القول: إنّ إمارة آل مزيد، رغم محدودية جغرافيتها، قد أسست لبنيةٍ علميةٍ واجتماعيةٍ شيعية لم تُمحَ، بل تطوّرت وتوسّعت، وكان لها الفضل في بروز مدينة الحِلّة كأحد أبرز معاقل التشيع في العالم الإسلامي【35】.

الدولة الصفوية (907–1149هـ / 1501–1736م): الدولة التي نقلت التشيع من ثقافة مضطهدة إلى مذهب رسمي لدولة كبرى

تُعد الدولة الصفوية واحدة من أكثر الدول الشيعية تأثيرًا في التاريخ الإسلامي، بل يمكن القول إنها أول دولة كبرى بعد الغيبة الكبرى تُعلن التشيع الإمامي الاثني عشري مذهبًا رسميًا لها، وتفرضه على جميع أقاليمها. وقد مهّد ذلك لتحول جذري في خريطة المذاهب في العالم الإسلامي، خصوصًا في بلاد فارس، التي انتقلت من مذهبها السابق (الشافعي غالبًا) إلى الانتماء الجماعي للمدرسة الإمامية الاثني عشرية【36】.

تأسست الدولة الصفوية سنة 907هـ (1501م) على يد إسماعيل الصفوي، الذي أعلن نفسه “شاهًا” لإيران، ورفع راية التشيع العلني، وفرض المذهب الإمامي على جميع البلاد، وسعى بكل طاقته إلى تحويل الدولة إلى حصن للمذهب وراية لأهل البيت (عليهم السلام) 【37】.

وقد اتخذ إسماعيل الصفوي وغيره من الملوك الصفويين التشيع هويةً سياسية وعقائدية، فدعوا إلى سبّ أعداء أهل البيت في الجوامع، وأمروا بالخطب التي تُعلن فيها الولاية والبراءة، وفرضوا على الناس التعلُّم في المدارس الإمامية، بل وأمروا بسب الخلفاء في بعض الفترات، ما سبّب صدامات دينية مع العثمانيين【38】.

وبرغم هذه الممارسات الحادة أحيانًا، إلا أن الدولة الصفوية استطاعت أن تنقل المذهب الإمامي إلى حالة من القوة والاستقرار، من خلال:

  • إنشاء المدارس والحوزات العلمية الكبرى في أصفهان، وقزوين، وقم، وغيرها【39】.
  • استقدام العلماء من جبل عامل (لبنان) والحلة والنجف والبحرين وغيرها، وتوليتهم المناصب الدينية الرفعية في البلاط الحكومي، ومن أبرزهم: المحقّق الكركي (ت 940هـ)، الذي يُعدّ المرجع الرسمي الأول في الدولة، وكان يطلق عليه “نائب الإمام الغائب (عليه السلام)”، كما وأُطلق عليه لقب “شيخ الإسلام”. 【40】وقد تولى بعده منصب “شيخ الإسلام”: ابنه الشيخ عبد العالي الكركي (ت 993هـ)، فالشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي (ت 984هـ)، فابنه الشيخ البهائي (ت 1030هـ)، فالميرداماد (ت 1041هـ) تلميذ البهائي، فالفيض الكاشاني (ت 1091هـ) صاحب كتاب الوافي، فالسيد نعمة الله الجزائري (ت 1112هـ)، والعلامة المجلسي (ت 1110هـ) صاحب بحار الأنوار.
  • دعم نشر كتب الفقه والعقائد، وتأسيس المكتبات العامة، وترجمة الكتب من العربية إلى الفارسية【41】.
  • إعمار مراقد أهل البيت (عليهم السلام) في العراق، وتمويل الرحلات الجماعية للزيارة【42】.
  • تنظيم مواكب العزاء في عاشوراء، وجعلها جزءًا من الحياة الدينية اليومية، وفرض الحزن العام في المحرم، وإحياء الغدير رسميًا【43】.
  • كما أُقيمت الحسينيات، وضُربت الطبول، ورُفعت الرايات، وتحولت مناسبات أهل البيت إلى مواسم شعبية ضخمة، مما شكّل نقلة كبيرة في الوعي الجماهيري الشيعي، وربط الناس وجدانيًا وشعائريًا بالإمام الحسين (عليه السلام)【44】.

وقد مثّل عهد الشاه عباس الكبير (ت 1038هـ / 1629م) العصر الذهبي للدولة الصفوية، حيث بلغت الدولة قمة قوتها، وازدهرت المدن الشيعية، وعُمرت النجف وكربلاء بشكل كبير، وأُقيمت المواكب في كل شوارع إيران، حتى باتت الدولة تُعرف عالميًا بأنها شيعية الهوية والمنهج【45】.

لكن لم يكن الصفويون معصومين من الأخطاء، إذ شاب دولتهم بعض مظاهر الاستبداد، والتضييق على المخالفين، وشهدت فترات من الصراع مع علماء الدين الذين رفضوا تدخل السلطة في الفتوى أو الشأن الديني. ومع ذلك، فإن أغلب العلماء تعاونوا مع الدولة الصفوية، ورأوا فيها حاميةً للمذهب بعد قرون من القهر والتقية【46】.

ويكفي الدولة الصفوية فخرًا أنها أسست دولة قوية امتدّت قرابة قرنين ونصف، وحوّلت إيران إلى معقل شيعي راسخ، ونقلت التشيع من الخفاء إلى العلن، ومن الهامش إلى القيادة، وجعلت من مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) مذهب دولة، لا مجرد تيار ثقافي. [47]

وقد استفاد من آثارها كل من جاء بعدها، سواء القاجاريون في إيران، أو العلماء في العراق ولبنان والبحرين، وامتد تأثيرها إلى يومنا هذا في بناء المؤسسات، وإحياء الشعائر، وترسيخ الهوية الشيعية الحضارية【48】.

الدولة القاجارية (1211–1344هـ / 1796–1925م): الدولة التي حفظت هوية إيران الشيعية ووطدت المرجعية في النجف وقم

شهد التاريخ الشيعي في العصر الحديث إحدى أهم تحولاته السياسية والفكرية في ظل الدولة القاجارية، تلك الدولة التي نشأت بعد اضطراب طويل في إيران، أعقب سقوط الصفويين، ومرور الحكم الزندي، وانتهى بتأسيس حكم قاجاري قوي على يد آغا محمد خان القاجاري سنة 1796م【49】. وقد تميّزت هذه الدولة بانتمائها المذهبي العلني للمذهب الإمامي الاثني عشري، وسعت ــ رغم تناقضات حكّامها ــ إلى تثبيت التشيع كهوية رسمية للدولة الإيرانية【50】.

لقد ورث القاجاريون دولةً متهالكة، وقاعدة دينية في طور التحول، فكان عليهم أن يوازنوا بين السلطة المطلقة التي يطمحون إليها، وبين النفوذ المتنامي لعلماء الشيعة الذين بدأوا يُشكّلون في العصر القاجاري مرجعية مستقلة وقوية【51】. هذا التوازن لم يكن دائم الانسجام، فقد شهدت العلاقة بين العلماء والدولة توترًا في بعض المراحل، وتعاونًا مثمرًا في مراحل أخرى، لكن النتيجة النهائية كانت ترسيخ التشيع فكريًا وسياسيًا وشعائريًا على مستوى إيران والبلاد المرتبطة بها ثقافيًا【52】.

لقد لعب العلماء دورًا أعظم من الدولة ذاتها في تثبيت المذهب، إذ لم يكن الحكّام القاجاريون ذوي وعي ديني عميق، بل كان بعضهم ضعيف الشخصية، أو واقعًا تحت نفوذ القوى الأجنبية (البريطانية والروسية). وفي مقابل ذلك، برزت في هذا العصر مرجعيات علمية عظيمة، استطاعت أن توجّه الأمة، وتنهض بالدين، وتُؤسس لفكر شيعي ناضج ومقاوم【53】.

من أعلام هذا العصر:

  • الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب الجواهر): واضع أسس الفقه الجواهري، ورمز الاجتهاد الكامل【54】.
  • الشيخ مرتضى الأنصاري (ت 1281هـ): مؤسس المدرسة الأصولية الحديثة، وصاحب كتابي الرسائل والمكاسب【55】.
  • السيد محمد حسن الشيرازي (ت 1312هـ): قائد ثورة التبغ الشهيرة (1891م)، التي أظهرت قوة المرجعية الشيعية واستقلالها السياسي عن السلطة، بعدما أصدر فتواه بتحريم استعمال التبغ احتجاجًا على امتياز استعماري منحته الدولة لشركة بريطانية【56】.
  • الآخوند الخراساني (ت 1329هـ): أبرز مؤيدي الثورة الدستورية في إيران، وداعم فكرة الحكومة العادلة التي تقف في وجه الاستبداد【57】.

ولم يقتصر دور العلماء على الفقه وسائر العلوم الدينية، بل تجاوزوه إلى إعمار العتبات المقدسة، ونشر الشعائر، وبناء المدارس والمكتبات. فقد شهد هذا العصر توسعة كبرى لمراقد الأئمة (عليهم السلام) في النجف وكربلاء وسامراء ومشهد، بتمويل من الشاه أو بدعم مباشر من العلماء【58】.

من أبرز المشاريع:

  • ترميم قبة الإمام الحسين (عليه السلام) بتمويل من فتح علي شاه، بناءً على توجيه العلماء【59】.
  • إعادة بناء قبة الإمام الرضا (عليه السلام) في مشهد، بأمر من ناصر الدين شاه، بعد زيارته للمشهد الشريف【60】.
  • توسعة الروضة الكاظمية، ودعم مدارس النجف، وتأسيس مكتبات بجوار المراقد【61】.

كما شهدت هذه الفترة نموًا كبيرًا للحوزات العلمية، لا سيما في النجف وقم، واستُقبل فيها طلاب من شتى أنحاء العالم الإسلامي، من الهند، والبحرين، والقوقاز، وأفغانستان، والقطيف، ولبنان، وانتشرت الكتب الشيعية المطبوعة حديثًا، وبدأت تنتشر ثقافة زيارة المراقد وقراءة الأدعية (كمفاتيح الجنان) بصورة واسعة【62】.

ولم يكن العلماء بعيدين عن مواجهة الانحرافات الفكرية، فقد تصدوا في هذا العصر للبابية والبهائية، وكتبوا عشرات الردود عليها، حماية لعقيدة الشيعة من التشويش والانحراف. [63]

الهوامش:

  1. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص235.
  2. ابن خلدون، العبر، ج3، ص133.
  3. ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: حلب.
  4. ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج3، ص128.
  5. أبو فراس الحمداني، ديوان الروميات.
  6. الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج16، ص250.
  7. الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص45.
  8. المسعودي، مروج الذهب، ج4، ص270.
  9. ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، ج3، ص91.
  10. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص303.
  11. المسعودي، مروج الذهب، ج4، ص338.
  12. ابن خلدون، العبر، ج3، ص211.
  13. الذهبي، تاريخ الإسلام، حوادث سنة 334هـ.
  14. الشيخ الطوسي، الفهرست، ص174.
  15. ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج7، ص30.
  16. ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: بغداد.
  17. ابن طاووس، الفرحة بزيارة المشاهد الشريفة، ص121.
  18. ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج4، ص105.
  19. السيد المرتضى، الذريعة إلى أصول الشريعة، مقدمة التحقيق.
  20. النجاشي، رجال النجاشي، ترجمة الشيخ الطوسي.
  21. جعفر السبحاني، موسوعة طبقات الفقهاء، ج4، ص292.
  22. محمد مهدي شمس الدين، نشأة الفكر السياسي الشيعي، ص110.
  23. عبد العزيز الداوودي، تاريخ الحلة ونشأتها في العصر الإسلامي، ص27.
  24. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص19.
  25. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الدولة العربية الإسلامية، ج4، ص108.
  26. المسعودي، مروج الذهب، ج4، ص361.
  27. جعفر السبحاني، موسوعة طبقات الفقهاء، ج5، ص44.
  28. حسين علي محفوظ، النجف والحلة ومدارسهما العلمية، ص63.
  29. الشيخ ورّام، تنبيه الخاطر ونزهة الناظر، مقدمة التحقيق.
  30. ابن إدريس الحلي، السرائر، ج1، مقدمة التحقيق.
  31. السيد ابن طاووس، فلاح السائل، مقدمة التحقيق.
  32. عبد الهادي الفضلي، مدخل إلى دراسة الفقه الإمامي، ص137.
  33. ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة: الحلة.
  34. السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص382.
  35. هادي آل كاشف الغطاء، المجالس الفاخرة في مناقب العترة الطاهرة، ص55.
  36. ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص304.
  37. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الدولة الصفوية، ص55.
  38. محمد أمين زكي، تاريخ إيران الحديث، ج1، ص78.
  39. السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص412.
  40. الشيخ الحر العاملي، أمل الآمل، ج2، ص166.
  41. عبد الهادي الفضلي، مدخل إلى التراث الشيعي، ص93.
  42. جعفر العاملي، موسوعة الشيعة في التاريخ، ج6، ص211.
  43. حسين مدرسي طباطبائي، الشيعة في التاريخ الإسلامي، ص224.
  44. محمد جواد مغنية، الشيعة في الميزان، ص181.
  45. عبد الكريم غريب، إيران والصفويون، ص97.
  46. جعفر السبحاني، تاريخ المرجعية، ج1، ص132.
  47. فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، ج5، ص49.
  48. عبد العزيز الدوري، مقدمة في تاريخ المذاهب الإسلامية، ص188.
  49. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الدولة القاجارية، ص37.
  50. محمد جواد مغنية، الشيعة في الميزان، ص201.
  51. عبد الهادي الفضلي، مدخل إلى دراسة الفقه الإمامي، ص156.
  52. محمد مهدي شمس الدين، تطور المرجعية الشيعية، ص85.
  53. مرتضى مطهري، المرجعية والروحانية، ص112.
  54. الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، مقدمة التحقيق.
  55. الشيخ مرتضى الأنصاري، الرسائل، ص7؛ المكاسب، ص3.
  56. جعفر الخليلي، موسوعة العتبات المقدسة، ج5، ص194.
  57. الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مقدمة الطبع.
  58. عباس إقبال، تاريخ إيران بعد الإسلام، ص315.
  59. السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص477.
  60. جعفر السبحاني، تاريخ المرجعية، ج2، ص144.
  61. حسن الأمين، دراسات في التاريخ الإسلامي الشيعي، ص91.
  62. حسين علي محفوظ، مدارس النجف وحوزاتها، ص119.
  63. فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي، ج6، ص88.