المقدمة:
خطبة الزهراء عليها السلام في المسجد النبوي جاءت بعد اغتصاب حقها في فدك، لتكون صرخةً خالدةً بوجه الظلم والجحود. وقفت بين المهاجرين والأنصار محتجّة بالقرآن والسنة، مبيّنةً مكانة أهل البيت عليهم السلام وحقهم الشرعي. كانت خطبتها وثيقةً دينية وتاريخية تفضح الانقلاب بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
- توجه الزهراء عليها السلام للمسجد
«أنَّه لَمّا أجْمَعَ أبو بكر عَلى مَنْعِ فاطمةَ عليها السلام فَدَكَ، وبَلَغَها ذلك، لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله، حَتّى دَخَلَتْ عَلى أَبي بَكْر وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَغَيْرِهِمْ، فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ. ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ، فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها، فَقَالَتْ عليها السلام…»
الشرح:
هذه المقدّمة تُصوّر الجوّ التاريخي الذي وقعت فيه الخطبة:
سبب الخطبة: أبو بكر منع الزهراء عليها السلام من فدك، وهي الأرض التي أعطاها النبي صلى الله عليه وآله لها.
خروجها: خرجت متستّرة بخمارها وجلبابها، في مرافقة نساء قومها، وهذا يُظهر وقارها وعفافها.
مشيتها: مشيتها كانت كمشية أبيها النبي، لتذكّر القوم برسول الله وتربط بين شخصها وشخصه.
المشهد في المسجد: دخلت على أبي بكر وهو بين المهاجرين والأنصار، فوضِع ساتر بينها وبين الرجال، ثم جلست.
تأثير حضورها: تأوّهت أنّة عظيمة، فبكى الحاضرون لبكائها، وارتجّ المجلس من شدّة التأثّر.
ابتداء الخطبة: سكتت حتى هدأ البكاء، ثم افتتحت كلامها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على رسوله، وهذا منهج الأنبياء والأولياء في كل خطاب مهم، حيث يبدؤون بالتوحيد والتحميد قبل الدخول في لبّ الموضوع. - تعريفها عليها السلام بنفسها:
«أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم} فَإنْ تَعْزُوه وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أبي دُونَ نِسائِكُمْ، وَأخا ابْنِ عَمَّي دُونَ رِجالِكُمْ، وَ لَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إلَيْهِ صَلى الله عليه وآله».
الشرح:
1. التعريف بالنفس: تبدأ الزهراء عليها السلام بالتعريف بنفسها: «أنا فاطمة»، لتقيم الحجّة على القوم، فهي بنت نبيّهم وحجّة الله عليهم.
2. التوكيد على الصدق: تؤكد أنّ كلامها ليس خطأً ولا شططاً، بل هو الحق المحض المبني على علم ويقين.
3. الاستشهاد بالقرآن: استشهدت بالآية {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ…} لتذكّرهم بمقام أبيها العظيم، وحرصه عليهم، وشفقته على المؤمنين.
4. الاحتجاج بالقرابة: بيّنت أنّ هذا الرسول هو أبوها دون نسائهم، وأنّه أخو عليّ (زوجها) دون رجالهم. أي أنّ القرابة والولاية محصورة في بيتها وعترتها، لا في غيرهم.
5. المغزى: أرادت بذلك أن تُثبت أنّ أهل البيت هم الامتداد الطبيعي للرسالة، وأنّ حقّهم في الخلافة والقيادة أوضح من الشمس، فلا يصح العدول عنهم. - دور النبي صلى الله عليه وآله في إنقاذ الناس:
«فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله بَعْدَ اللّتَيّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجالِ وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ وَمَرَدَةِ أهْلِ الْكِتابِ، {كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ}، أوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَذَفَ أخاهُ في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً، مُجِدّاً كادِحاً ـ وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ القِتالِ».
الشرح:
1. إنقاذ الأمة: تُذكّرهم بأنّ الله أنقذهم برسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن كانوا محاطين بالأعداء من كل جانب: قساة الرجال، ذئاب العرب، ومردة أهل الكتاب.
2. دور علي عليه السلام: كلما أثار المشركون حربًا، أو خرج قرنٌ للشيطان، كان عليٌّ عليه السلام هو الملقى في لَهَواتهم (أي في وسط شدّتهم)، لا يرجع حتى يقضي عليهم ويطفئ نارهم بسيفه.
3. وصف جهاده: كان عليّ عليه السلام مجتهداً في طاعة الله، متحملاً المشاق، ناصحاً لله ورسوله، مقرباً من النبي، وهو سيد أولياء الله.
4. تقريع القوم: في المقابل، وبّختهم بأنهم كانوا في رفاهية وراحة، آمنين فاكهين، لا يشاركون في الجهاد، بل ينتظرون الأخبار ويتمنّون أن تدور الدوائر على أهل البيت، ويتراجعون عند المواجهة، ويهربون عند القتال.
5. المغزى: الزهراء عليها السلام تُبرز المفارقة: عليٌّ يجاهد ويحمي الإسلام، بينما القوم يتخاذلون وينكصون، ومع ذلك آلت السلطة إليهم بعد النبي، وهذا أعظم ظلم. - وصف حال المسلمين بعد شهادة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله:
«فَخَطَرَ فِي عَرَصاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ. ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً، فَوَسَمْـتُمْ غَيْرَ اِبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ، هذا وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَرْ، ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، {ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ}.»
الشرح:
تشبيه الشيطان: تُصوّر السيدة الزهراء عليها السلام أنّ الشيطان كان كامناً في مغرزه، ثم أطلّ بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله، فدعا القوم فانقادوا له بسرعة.
استجابتهم العاجلة: لم يتردّدوا في قبول دعوته، بل أسرعوا مستجيبين، متأثرين بالغرور والحمية، فقاموا متحمسين في غير موضعهم.
اغتصاب الحق: عبّرت بقولها: «وسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم» أي: أخذتم ما ليس لكم، وتصرّفتم في موردٍ لا يخصّكم.
التوقيت الفاضح: كلّ ذلك وقع والوقت قريب جداً من وفاة النبي، والجرح لم يندمل، بل لم يُدفن رسول الله بعد. وهذا يُظهر عِظم التسرع في الانقلاب.
الذريعة الباطلة: اعتذروا بأنهم فعلوا ذلك خوف الفتنة، فردّت عليهم بالآية: {ألا في الفتنة سقطوا}، أي أنّهم بدعواهم دفع الفتنة وقعوا في لبّها.
العاقبة: ختمت بتهديد قرآني أنّ جهنم تحيط بالكافرين، أي أنّ هذا المسلك مصيره عذاب الله. - الانقلاب على الأعقاب والتكالب على الدنيا:
«فَهَيْهاتَ مِنْكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأَنَى تُؤْفَكُونَ؟ وَكِتابُ اللّه بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أُمُورُهُ ظاهِرَةٌ، وَأَحْكامُهُ زاهِرَةٌ، وَأَعْلامُهُ باهِرَةٌ، وَزَواجِرُهُ لائِحَةٌ، وَأوامِرُهُ واضِحَةٌ، قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، أرَغَبَةً عَنْهُ تُرِيدُونَ، أمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُونَ، {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا الاّ رَيْثَ أنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُها، وَيَسْلَسَ قِيادُها ثُمَّ أَخّذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَها، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيْطانِ الْغَوِيِّ، وَاطْفاءِ أنْوارِالدِّينِ الْجَلِيِّ، وَاهْمادِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ، تُسِرُّونَ حَسْواً فِي ارْتِغاءٍ، وَتَمْشُونَ لأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِي الْخَمَرِ وَالْضَّراءِ، وَنَصْبِرُ مِنْكُمْ عَلى مِثْلِ حَزِّ الْمُدى، وَوَخْزِ السِّنانِ فِي الحَشا، وَأَنْـتُمْ تزْعُمُونَ ألاّ ارْثَ لَنا، {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أفَلا تَعْلَمُونَ؟ بَلى تَجَلّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضّاحِيَةِ أنّيِ ابْنَتُهُ».
الشرح:
الاستنكار: تبدأ الزهراء عليها السلام باستفهام إنكاري: كيف تُصرفون عن الحق والقرآن بين أيديكم؟ فيه أحكام واضحة وزواجر بيّنة، فما العذر في تركه؟
نبذ القرآن: تذكّرهم بأنهم أعرضوا عن كتاب الله، كأنهم أرادوا غير حكمه، وتصف ذلك بأنه بَدَل سيئ {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً}.
سرعة الانقلاب: تبيّن أنّهم لم يمهلوا إلا قليلاً بعد وفاة النبي حتى أشعلوا الفتنة، وأثاروا جمرها من جديد، وأطاعوا نداء الشيطان.
إطفاء نور الدين: بعملهم هذا، سعوا في إخماد أنوار الدين وتعطيل سنن النبي الصفي.
المكر والخديعة: وصفتهم بأنهم يُظهرون غير ما يُبطنون: “تسرّون حسواً في ارتغاء”، أي يظهرون الشرب الصافي ويبطنون الغش.
ظلم أهل البيت: تعاملوا مع أهل النبي وولده بالقسوة والشدّة، حتى كأنهم يطعنونهم بخناجر ورماح.
دعوى باطلة: يزعمون أنه لا إرث لآل النبي، مع أن القرآن صريح في إثباته.
الاحتكام للجاهلية: ردّت عليهم بالآية: {أفحكم الجاهلية تبغون}، أي إنكم أعرضتم عن حكم الله إلى أحكام باطلة.
الحجّة القاطعة: ختمت بأن أمر بنوّتها للنبي واضح كالشمس الضاحية، فلا حُجّة لمنكر ولا عذر لمتأوِّل. - المطالبة بإرث النبي صلى الله عليه وآله وسكوتهم عن حقها عليها السلام:
«أَيُهَا الْمُسْلِمونَ أاُغْلَبُ عَلى ارْثِيَهْ يَا ابْنَ أبي قُحافَةَ! أفي كِتابِ اللّهِ أنْ تَرِثَ أباكَ، وِلا أرِثَ أبي؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا}. أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللّهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ اذْ يَقُولُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}. وَقالَ فيمَا اخْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيَي بْنِ زَكَرِيّا عليهما السلام اذْ قالَ رَبِّ {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِياًّ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}. وَقَالَ: {وَاُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّه}. وَقالَ: {يُوصِكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيْنِ}. وَقال: {انْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والْأَقْرَبِبنَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}. وزَعَمْتُمْ أَلَا حِظوَةَ لِي، وَلا إرْثَ مِنْ أبي ولا رَحِمَ بَيْنَنَا!
أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخْرَجَ مِنْها أبِي؟ أمْ هَلْ تَقُولونَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثَانِ، أوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحِدَةٍ؟! أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمّي؟ فَدُونَكها مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً، تَلْقاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدَمُونَ، {وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ».
الشرح:
مخاطبة مباشرة: توجّهت السيدة الزهراء عليها السلام بخطاب صريح إلى أبي بكر (ابن أبي قحافة) وإلى عموم المسلمين متعجبة: أأُغلب على إرثي وأنا بنت النبي؟!
المفارقة الظالمة: كيف يُجيزون لأنفسهم أن يرثوا آباءهم، ثم يمنعونها من إرث أبيها؟ هذا تناقض بيّن.
الاحتجاج بالقرآن: استشهدت بعدة آيات صريحة في توريث الأنبياء وأبناءهم:
{وورث سليمان داود}.
دعاء زكريا: {يرثني ويرث من آل يعقوب}.
آية {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض}.
آية المواريث {يوصيكم الله في أولادكم…}.
آية الوصية للوالدين والأقربين.
لتؤكد أن القرآن كله ينطق بأحقية الإرث.
إبطال أعذارهم: سألتهم: هل خصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ هل تقولون إنّ أهل ملّتين لا يتوارثان، مع أني وأبي من ملة واحدة؟ أم أنكم أعلم من النبي وابن عمه بالقرآن؟
التسليم القهري: ختمت بقولها: إن كنتم غصبتم الحق، فدونكم فدك “مخطومة مرحولة”، ستلقاكم يوم القيامة.
الوعيد الأخروي: جعلت الله الحكم، والنبي الزعيم، والموعد يوم القيامة، حيث يخسر المبطلون، ويظهر العذاب الذي يُخزي الظالمين. - التوجه إلى عتاب الأنصار:
«ثُمَّ رَمَتْ بِطَرْفِها نَحْوَ الْأَنْصارِ فَقالَتْ: يا مَعاشِرَ الْفِتْيَةِ، وَأَعْضادَ الْمِلَّةِ، وَأنْصارَ الْإِسْلامِ! ما هذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي؟ وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِي؟ أما كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله علبه وآله أبِي يَقُولُ: “اَلْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ”؟ سَرْعانَ ما أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذا إهالَةً، وَلَكُمْ طاقَةٌ بِما اُحاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلى ما أَطْلُبُ وَاُزاوِلُ!
أَتَقُولُونَ ماتَ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله؟! فَخَطْبٌ جَليلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْيُهُ، وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ، وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِغَيْبَتِهِ، وَكُسِفَتِ النُّجُومُ لِمُصِيبَتِهِ، وَأَكْدَتِ الْآمالُ، وَخَشَعَتِ الْجِبالُ، وَاُضيعَ الْحَرِيمُ، وَاُزيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَماتِهِ. فَتِلْكِ وَاللهِ النّازلَةُ الْكُبْرى، وَالْمُصيبَةُ الْعُظْمى، لا مِثْلُها نازِلَةٌ وَلا بائِقَةٌ عاجِلَةٌ أعْلَنَ بِها كِتابُ اللهِ -جَلَّ ثَناؤُهُ- فِي أَفْنِيَتِكُمْ فِي مُمْساكُمْ وَمُصْبَحِكَمْ هِتافاً وَصُراخاً وَتِلاوَةً وَإلحاناً، وَلَقَبْلَهُ ما حَلَّ بِأنْبِياءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، حُكْمٌ فَصْلٌ وَقَضاءٌ حَتْمٌ: {وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإنْ ماتَ أَو قُتِلَ انقلَبْتُمْ على أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرينَ}».
الشرح:
1. التفاتها إلى الأنصار: بعد احتجاجها على المهاجرين والخليفة، وجّهت كلامها مباشرة إلى الأنصار الذين كانوا سند الإسلام في بداياته. سألتهم: لماذا الصمت عن ظلامتها؟ أين نصرتهم التي عُرفوا بها؟
2. الاحتجاج بكلام النبي: استشهدت بحديث أبيها: “المرء يُحفظ في وُلده”، أي أنّ احترام النبي بعد وفاته يكون في حفظ حقوق ذريته. فترك الأنصار الدفاع عنها خيانة لوصية النبي.
3. استنكار سرعة الانقلاب: عبّرت عن عجبها من سرعة تغيّر الموقف بعد وفاة النبي، فقالت: سُرعان ما أحدثتم، أي ما أسرع ما انقلبتم، مع أنّ القوة بأيديكم والقدرة حاضرة لنصرها.
4. ذكر المصيبة الكبرى: وصفت وفاة النبي صلى الله عليه وآله بأنّها المصيبة العظمى التي لا تضاهيها مصيبة، حتى كادت الأرض تظلم، والآمال تنقطع، والجبال تخشع، والحرمة تُزال.
5. التذكير بالقرآن: احتجّت بالآية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل…}، لتبيّن أن موته لا يُبرر الانقلاب على الدين، بل الامتحان الحقيقي هو بعد وفاته: هل يتمسكون بخطه أم ينقلبون على أعقابهم. - الخوف من التصدي للباطل:
«أيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أاُهْضَمُ تُراثَ أبِيَهْ وَأنْتُمْ بِمَرْأى مِنّي وَمَسْمَعٍ، ومُبْتَدأٍ وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ الْخَبْرَةُ، وَأنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّةُ؛ تُوافيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغيثُونَ، وَأنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ، مَعْرُفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّجَبَةُ الَّتي انْتُجِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتيرَتْ! قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ الاُْمَمَ، وَكافَحْتُمً الْبُهَمَ، فَلا نَبْرَحُ أو تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ حَتَّى دَارَتْ بِنا رَحَى الإْسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيّامِ، وَخَضَعَتْ نُعَرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإْفْكِ، وَخَمَدَتْ نيرانُ الْكُفْرِ، وهَدَأتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظامُ الدِّينِ؛ فَأَنّى جُرْتُمْ بَعْدَ الْبَيانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإْعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإْقْدامِ، وَأشْرَكْتُم ْبَعْدَ الإْيمانِ؟ {ألا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَداؤُكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.»
الشرح:
مخاطبة مباشرة للأنصار: الزهراء عليها السلام تخاطب بني قَيْلَة (الأوس والخزرج) الذين عُرفوا بأنصار الإسلام، مستنكرة سكوتهم عن هضم حقها وهي ابنة نبيهم، وهم حاضرون يرون ويسمعون.
تذكير بقوتهم: بيّنت أنّهم أهل العدة والعدد، يملكون السلاح والحصون، وعندهم القوة للدفاع عنها، لكنهم قصّروا في نصرة الحق.
لوم على خذلانهم: رغم أنّ الدعوة تأتيهم فلا يجيبون، والاستغاثة تصرخ بهم فلا يغيثون، مع أنّهم كانوا موصوفين سابقًا بالشجاعة والخير والجهاد.
سجلّهم في الإسلام: ذكّرتهم بماضيهم: هم الذين قاتلوا العرب، وصبروا على الكدّ والتعب، وقاوموا الأمم، حتى دار الإسلام عليهم وصار لهم الفضل في نشره.
المفارقة: بعد أن كانت رحى الإسلام تدور بجهودهم، وبعد أن أُخمدت نيران الشرك والكفر، انقلبوا الآن إلى النكوص والتراجع عن النصرة.
العتاب الشرعي: سألتهم: كيف جُرتم بعد البيان، أي بعد وضوح الحق بالكتاب والسنة؟ وكيف أسررتم بعد الإعلان، أي أضمرتم المخالفة بعد أن كنتم جاهرتم بالإيمان؟
الاستشهاد بالقرآن: ختمت بالآية {ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم…} لتدلّ على أن الواجب الشرعي كان أن يقاتلوا الناكثين والظالمين لا أن يسكتوا أو يتراجعوا. - سبب خذلان الناس للزهراء عليها السلام:
«أَلا قَدْ أرى أنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إلَى الْخَفْضِ، وَأبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّيقِ بِالسَّعَةِ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعَيْتُمْ، وَدَسَعْتُمُ الَّذِي تَسَوَّغْتُمْ، {فَإنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأْرْضِ جَمِيعاً فَإنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
ألا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلْتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خامَرَتْكُمْ، وَالغَدْرَةِ التِي اسْتَشْعَرَتْها قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّها فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَخَوَرُ الْقَنا، وَبَثَّةُ الصُّدُورِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ.
فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، باقِيَةَ الْعارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشَنَارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنَارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. فَبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}، وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ، {فَاعْمَلُوا إنّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ}.»
الشرح الفقهي والبلاغي (مختصر ومركز):
مضمون الحكم والإنكار:
«أخْلَدتُم إلى الخفض» = خرَنتُم ورضيتم بالدون.
«أبعدتم مَن هو أحقّ بالبسط والقبض» = أسندتم حقّ القيادة والولاية إلى غير أهلها شرعاً.
هذا إنكار عملي على تحوّل موقفهم عن إقامة أمر الله إلى طلب الرفاه والنجاة من المشقّة.
الصور البلاغية والمعاني:
«الدعة» و«السعة» تصوير للترف والاطمئنان الذي أدّى إلى الخذلان.
«مَجَجْتُم ما وعيتم» و«دسعتم الذي تسوّغتم» = أخذتم ما ليس لكم وطمعتم فيما لم تُستَحِقّوه. لغة قاطعة تبيّن الفعل والضمير.
الحجة القرآنية والفقهية:
تذكر الآية {فإن تكفروا… الله غني حميد} تفيد أن رفض الحقّ لا يمسّ ربوبيّة الله وأن مبادئ التكليف ثابتة.
الاستدلال هنا فقهي: ترك نصّ الكتاب والعمل ببدائل بشرية لا يبرر اطلاع الحقوق المقرّة في القرآن.
تفسير العبارات النفسية:
«فيض النفس» و«نفثة الغيظ» و«خَوَر القنا» وصف لحالة انفعالية دفعتهم للظلم لا لحكمة شرعية. الزهراء تقول: كلامي وردِّي مبنيّ على علم وحُجة لا على هياج.
التحقير والتهديد الأخروي:
«دبرة الظهر… باقية العار… موصومة بغضب الله…» تعيين لعقوبات دنيوية وأخروية. هذا بيان فقهي شرعي: الظلم له آثار أخلاقية واجتماعية ويعقبه حساب إلهي.
التحذير والتذكير بالجزاء:
اقتباس {وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون} و{فاعملوا إنا عاملون…} يضع النتيجة أمامهم: إما ردّ الحق وإثمه، وإما قبول الحجة ومصالحة.
الأثر الفقهي العملي:
من منطلق الفقه: حقّ الميراث والمال المُؤتى لأهل البيت يجب أن يُستعاد بدليل الكتاب والنصّ. الزهراء تؤكد أن السكوت أو التّسوية لا تحول النصّ إلى باطل.
واجب العلماء والجهات القابضة على السلطة أن يطالبوا بالحقّ ويُقيموا حجّته شرعًا.
الخلاصة القانونية:
الخطبة هنا تجمع بين بيان النصّ (الحق القرآني) وربطه بالمسؤولية السياسية والجزاء الأخروي. رفض الحكم الشرعي لاعتبارات دنياوية هو ظلم صريح يستلزم الردّ الشرعي واسترداد الحقوق.