الوحدة التي هدمت التوحيد: لماذا يرفض علماء الشيعة نظرية وحدة الوجود؟

1- جذور عقيدة وحدة الوجود ونشأتها التاريخية

عقيدة وحدة الوجود تُعد من أبرز الأفكار التي انتشرت في بعض أوساط التصوف والفلسفة، وتتلخص في أن الوجود الحقيقي منحصر بالله سبحانه وتعالى وحده، وأن جميع ما سواه من الكائنات لا يمتلك وجودًا مستقلًا بذاته، بل يُعتبر مجرد مظهر أو تجلٍّ للحق تعالى. ويرى أصحاب هذه العقيدة أن الإنسان، والملائكة، والشياطين، والجماد، وسائر الكائنات، ما هي إلا صور أو تموجات في بحر الوجود الإلهي، حتى ذهب بعضهم إلى القول بأن العالم بأسره هو “عين الله”.

ومن الناحية التاريخية، لم تظهر فكرة وحدة الوجود فجأة في التصوف الإسلامي، بل لها جذور راسخة في الفلسفات الشرقية القديمة، مثل الهندوسية والبوذية، حيث سادت هناك نظرية الفيض ووحدة الوجود. ثم انتقلت هذه التصورات إلى الفلسفة اليونانية، لاسيما الأفلاطونية الحديثة، التي أسسها أفلوطين، حين طرح نظرية “الواحد” الذي يصدر عنه الكون في مراتب، دون أن يتأثر هو بأي تغير.

ومع مرور الوقت، تسربت هذه الأفكار إلى البيئة الإسلامية عبر قنوات التصوف، فوجدت صداها لدى بعض العرفاء والمتصوفة، مثل ابن عربي، الذي صاغ العقيدة في نسق فلسفي عرفاني متكامل، ثم تبعه عدد من المفكرين، كصدر المتألهين الشيرازي، حيث أعادوا دمجها في منظومة فلسفية وتصوفية أعمق. كما تسللت إلى بعض أتباع الفكر الشيعي ممن تأثروا بالعقل العرفاني الفلسفي.

ومن المظاهر التي جذبت البعض لهذه العقيدة أنها تقدم نفسها كدعوة للسمو الروحي وارتقاء النفس، إلا أنها في حقيقتها تذيب الحدود الفاصلة بين الخالق والمخلوق، وتسوّي بين الخير والشر، والشيطان والملَك، وتجعل الجميع مظاهر متعددة لوجود واحد.

2- أصحاب نظرية وحدة الوجود

أولًا: رواد في التصوف (وخاصة أصحاب “وحدة الشهود” والفناء)
تحدث العديد من المتصوفة عن تجارب روحية عميقة تتعلق بالتوحيد والفناء في الله، وهي تجارب مهدت لظهور فكرة وحدة الوجود. هؤلاء لم يصيغوا المفهوم بالضرورة كنظام فلسفي متكامل كما فعل ابن عربي، بل كانت تعبيرات عن تجاربهم الروحية أو رؤاهم للتوحيد الإلهي:

* أبو يزيد البسطامي (توفي 261 هـ/874 م): يعتبر من أوائل من تحدث عن “الشطحات” الصوفية التي تشير إلى الفناء وغلبة الحال. من أشهر أقواله كما في اللمع في التصوف: “رأيت ربّي بعين ربّي، فقال لي: يا أنت أنا، وأنا أنت“، التي يُفهم منه الفناء الكامل والاتحاد ثم البقاء بالله، وهذا القول قريب جدًا من أقوال ابن عربي.

* الحسين بن منصور الحلاج (توفي 309 هـ/922 م): أشهر قول له كما في ديوانه: “رأيت ربّي بعين قلبي، فقلت: من أنت؟ قال: أنت“. هذا القول، الذي هو تعبير عن الاتحاد والفناء المطلق في الحق الإلهي، بحيث لم يعد يرى ذاته منفصلة عن الحق. كأن يرى أن الوجود الظاهر كله صورة للحق.

* محيي الدين ابن عربي المعروف بالشيخ الأكبر (توفي 638 هـ/ 1240 م): يعد مؤسس نظرية وحدة الوجود كما عرفت عند المتصوفة والفلاسفة المتأخرين. ومن أقواله في فصوص الحكم: “العبد ربّ، والربّ عبد، يا ليت شعري من المكلف؟” وقال في ديوانه: “فكلُّ ما ترى عيني فذاكَ هوَ، وليس في الوجود سواه مُجتَلي“، ويفهم من ذلك الاتحاد والفناء والحلول فكأن كل شيء هو الله والعياذ بالله، وقد مهد لذلك البسطامي والحلاج.

ثانياً: رواد في الفلسفة (خاصة الأفلاطونية الحديثة)
تأثر الفكر الإسلامي بشكل كبير بالترجمات من الفلسفة اليونانية، وخاصة الأفلاطونية الحديثة، التي حملت في طياتها بذورًا لفكرة الوحدة والفناء:

* أفلوطين (Plotinus، توفي 270 م): هو المؤسس الفعلي للأفلاطونية الحديثة. طرح نظرية “الواحد” (The One) الذي هو أصل كل الوجود، والذي تفيض عنه الكثرة تدريجياً في مراتب متناقصة من الكمال (العقل، ثم النفس، ثم المادة). هذا الواحد لا يتأثر بالفيض، بل يبقى متعالياً. هذه الفكرة عن الفيض أثرت بشكل كبير في فكرة ابن عربي عن تجلي الوجود.

* ابن مسرة (توفي 319 هـ / 931 م): فيلسوف صوفي أندلسي سبقت مدرسته ابن عربي بقرنين تقريباً. تأثر بأفلوطين والفلسفات الأخرى، وتحدث عن الوجود الإلهي الذي هو أصل كل الموجودات. يعتبر ابن مسرة من أهم الممهدين لابن عربي في الأندلس.

* إخوان الصفا (في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي): جماعة فلسفية سرية، قامت بتجميع وتوليف علوم مختلفة (يونانية، فارسية، هندية) مع الفكر الإسلامي. في رسائلهم، يظهر الميل إلى وحدة الوجود ووحدة المعرفة، وفكرة أن كل الوجود صادر عن مبدأ واحد.

بشكل عام، يمكن القول إن ابن عربي لم يخترع “وحدة الوجود” من العدم، بل ورث تراثًا غنيًا من التجارب الصوفية التي تتحدث عن الوحدة الوجودية في تجلياتها، ومن الفلسفات التي تصور الكون كفيض من الواحد. لقد قام بدمج هذه الروافد المختلفة، وصياغتها في نسق فلسفي متكامل ومترابط، وقدم لها تأويلاً باطنيًا عميقًا، مما جعل “وحدة الوجود” مرتبطة باسمه بشكل أساسي.

3- الآثار العقدية الخطيرة لعقيدة وحدة الوجود

إن عقيدة وحدة الوجود ليست مجرد مسألة فلسفية أو نظرية عابرة، بل تترتب عليها نتائج خطيرة تهدد أصول الإيمان ومرتكزات العمل الديني في الشريعة الإسلامية.

أول ما يترتب على هذه العقيدة هو (1) نفي التوحيد الحقيقي، إذ يُجعل الله عين كل شيء، فيضيع بذلك التمايز الضروري بين الخالق والمخلوق، ويُهدم الأساس الذي قام عليه الدين الحنيف، مخالفًا صريح القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.

ثم يأتي (2) التأليه الضمني للمخلوقات، حيث تتحول حتى الشرور والكفر والشياطين إلى مظاهر للحق تعالى، فيُعتبر كل شيء مقدسًا، حتى المعاصي والجرائم!

أما مسؤولية الإنسان، فإنها تضيع أيضًا؛ إذ لا معنى للتكليف أو الحساب أو الثواب والعقاب إذا كان الإنسان مجرد مظهر لله تعالى لا يملك إرادة مستقلة. ويترتب على ذلك (3) سقوط العبادات والتكاليف، إذ يرى بعض دعاة وحدة الوجود أن من تحقق بهذه العقيدة سقطت عنه جميع التكاليف الشرعية، وهو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة وسيرة النبي وأهل البيت (عليهم السلام) في العبادة والخضوع لله تعالى.

ومن أخطر اللوازم كذلك (4) نفي الصفات الإلهية، فبما أن الجميع تجلٍ لوجود واحد، تزول الفوارق بين العالم والجاهل، أو القادر والعاجز، وتضيع معالم الصفات الحقة لله عز وجل.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل (5) جواز عبادة غير الله، إذ يصبح من المقبول عندهم عبادة الأصنام أو البشر أو غير ذلك بزعم أنها مظاهر للحق تعالى! لأن العارف الكامل إذا وصل إلى “الحقيقة” فلا صلاة عليه ولا صيام، لأنه صار هو والحق شيئًا واحدًا. وهذا نقض للشريعة، ونسخ لما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، بل تكذيب لقوله تعالى: “وما أُمِروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين” (البينة: 5.

(6) أما النبوة والإمامة، فيتم تشويه مقامهما الجليل؛ إذ تُختزل النبوة والإمامة إلى مجرد مظاهر بلا وساطة حقيقية بين الخالق والمخلوق، فتفرغ الرسالة من مضمونها الرباني.

ويُضاف إلى ذلك (7) تبرير الفساد والظلم، حيث يُعتبر الكافر أو الفاسق تجليًا لله تعالى، فلا يُلام على أفعاله، فإنّ: أفعال إبليس، وفرعون، والكافرين، هي أفعاله! والزنا، والقتل، والظلم، والكفر، تصبح أفعاله سبحانه وتعالى. وهذا بُهتان عظيم، ويُعارض عدله عزّ وجل، ويؤدي إلى نفي الجنة والنار، والثواب والعقاب، إذ لا معنى لمحاسبة “التجلّي” على ما فعل!

4- الدلائل الشرعية والعقلية على بطلان وحدة الوجود

وعند التأمل في النصوص الشرعية، يتضح بجلاء أن عقيدة وحدة الوجود تتعارض مع جوهر القرآن الكريم وسنة النبي وأهل بيته (عليهم السلام). فالآيات الكريمة أكدت بوضوح التمايز المطلق بين الله تعالى وخلقه، ونفت بشكل قاطع كل صور الاتحاد أو التشبيه بين الخالق والمخلوق. يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ (الشورى: 11)

هذه الآية المباركة تؤسس حاجزًا لا يمكن تجاوزه بين الخالق والمخلوق، وتعلن تنزيه الله تعالى عن كل شبيه أو نظير أو مثيل.

أما الروايات الشريفة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فهي تشرح هذا التمايز بدقة ووضوح. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «من وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله.»

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «بيّنٌ لا يُرى، وقريب لا يُلمس، وشاهد لا يُحس، وغائب لا يُفقد.»

وسُئل الإمام الهادي (عليه السلام) عن التوحيد، فأجاب: «الله تعالى واحد، أحد، صمد… خالق وليس بمخلوق… وتعالى عن أن يكون له شبيه، هو لا غيره، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.»

هذه النصوص المباركة تؤكد نفي كل صور الحلول أو الاتحاد أو المظاهراتية الوجودية، وتثبت أن الله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، لا يحل في شيء، ولا يتجلى في موجود، ولا يشبه أحدًا من خلقه.

ولهذا فإن العقيدة الشيعية الإمامية ترفض عقيدة “وحدة الوجود” رفضًا تامًا، التزامًا ببيان القرآن وأحاديث العترة الطاهرة.

ولم تكتفِ نصوص أهل البيت (عليهم السلام) بإثبات التمايز، بل جاءت أيضًا تحذّر من العرفاء والمتصوفة الذين تبنوا مثل هذه الأفكار المنحرفة. فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إياكم والتصوف، فإنهم أعداؤنا، من مال إليهم فهو منهم، ويُحشر معهم.»

وقال (عليه السلام) في نفي الحلول والاتحاد: «لعن الله من قال إنّا نحن الله، ولعن الله من قال إنّا نحن ربّ العالمين.»

وهكذا تظهر خطورة الانحراف عن التوحيد، وتبرز دعوة أهل البيت (عليهم السلام) للثبات على الفصل بين الخالق والمخلوق، والابتعاد عن كل قول يُفضي إلى حلول الله في خلقه أو اتحاده مع المخلوقات.

كما يقرر العقل الصريح، كما يؤكده منهج أهل البيت (عليهم السلام)، أن الله سبحانه وتعالى هو واجب الوجود بذاته، غني عن كل شيء، أما غيره فممكن الوجود، حادث، محتاج إليه في كل لحظة. هذه الحقائق العقلية تقتضي الفصل التام بين الخالق والمخلوق؛ فلا يعقل أن يكون الفقير عين الغني، أو الحادث عين القديم.

5- موقف فقهاء الشيعة من وحدة الوجود 

وفي كلمات علماء الشيعة الإمامية، نجد إجماعًا صريحًا على رفض وحدة الوجود كما روج لها بعض الصوفية والعرفاء.

قال العلامة المجلسي (رحمه الله): “وهذا القول (أي وحدة الوجود) من أبطل الباطل، وهو زندقة صريحة، وقد اختُرع من أعداء الدين.”

وقال السيد الخوئي (رحمه الله): “القول بوحدة الوجود على النحو الصوفي المعروف، كفر صريح ومنافٍ للتوحيد، وهو زندقة يجب البراءة منها.”

أما الشيخ جعفر كاشف الغطاء (رحمه الله)، فقد قال: “من يقول بأن لا وجود إلا وجود الله، وأن الكثرة وَهْم، فهو ملحد زنديق، ومبطل للتكاليف، ومسوّغ للكفر والفسق.”

وأيضًا السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): “القول بوحدة الوجود الحقيقية كفر.”

هؤلاء الأعلام وغيرهم من كبار الفقهاء والمتكلمين، من الشيخ المفيد والمرتضى والطوسي والعلامة الحلي، أجمعوا على أن الله موجود بذاته، والمخلوقات موجودة بإيجاده، ولا مجال للحلول أو الاتحاد، وأن الفصل بين الخالق والمخلوق أصل من أصول التوحيد.