من رفض البيعة إلى كربلاء: معركة الشرعية بين الإمام الحسين عليه السلام ويزيد بن معاوية

تحليل سياسي لرفض الإمام الحسين عليه السلام بيعة يزيد بن معاوية وقرار قتله

لم يكن موقف الإمام الحسين (عليه السلام) من بيعة يزيد بن معاوية حادثة طارئة في تاريخ الإسلام، بل كان تجلّيًا لمقام الإمامة وامتثالًا مطلقًا لأمر الله تعالى. اجتمعت في قراره الحكمة والبصيرة والقيادة الرسالية، فسار (عليه السلام) على هدى العصمة، ليصوغ لكل الأجيال منهاج هداية وإصلاح خالد.

وإذ نحلل اليوم بعض أبعاد حكمته السياسية، ندرك أن الأصل في فعله (عليه السلام) هو العصمة والاستجابة الإلهية، وما التحليل إلا تقريب لفهمنا البشري واستلهام لدروس النهضة. وعليه، تتلخص الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذا الموقف في المحاور الآتية:

أولًا: شرعنة الفساد تعني نهاية الإسلام

كان قبول الإمام الحسين (عليه السلام) ببيعة يزيد سيُعد بمثابة ختم شرعي على سلطة رجل جاهر بالفسق، وتجاوز حدود الله، وابتعد عن جوهر الشريعة. ففي تلك اللحظة المفصلية، كان موقف الإمام (عليه السلام) سدًا منيعًا يفصل بين الإسلام الأصيل والانحراف السلطوي. وقد عبّر عن هذه الحقيقة الخالدة بقوله الشريف: «إِنَّا أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ… وَيَزِيدُ رَجُلٌ فَاسِقٌ، شَارِبُ الْخَمْرِ… وَمِثْلِي لَا يُبَايِعُ مِثْلَهُ.» (الاحتجاج للطبرسي).

إن الرفض هنا لم يكن اعتراضًا شخصيًا أو نزاعًا على سلطة، بل كان موقفًا مبدئيًا يرفض جعل الباطل مقبولًا باسم الدين، ويمنع شرعنة الفساد تحت عباءة الإسلام.

ثانيًا: عدم تجريد الأمة من آخر رموزها الأخلاقية

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يمثل الامتداد الحي لرسالة النبوة وقيمها السامية في ضمير الأمة. ولو أنه قَبِل البيعة، لاندمجت المرجعية الأخلاقية والدينية في سلطان منحرف، وفقد الناس آخر معيار يميزون به الحق من الباطل.

لقد اختار الإمام (عليه السلام) أن يبقى خط أهل البيت (عليهم السلام) نقيًّا ومستقلًا، حتى يظلّ منارة هدى ومعيارًا دائمًا للحق في وجه كل انحراف أو طغيان.

ثالثًا: تحريك وعي الأمة النائم

عقب سنوات طويلة من القمع والاستبداد، أصاب الأمة جمود وخمول أصاب ضمائرها وطاقاتها. فجاء رفض الإمام الحسين (عليه السلام) للبيعة بمثابة شرارة أحيت الحوار في المجتمع، وأيقظت الضمير الجمعي من سباته، وصنعت صدمة سياسية هزّت كيان الأمة. لقد كان خروج الإمام (عليه السلام) استراتيجية واعية لإحياء روح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعث الوعي من جديد في أوصال الأمة بعد طول سبات.

رابعًا: رسم خط تاريخي يفصل بين السلطة والدين

كان يزيد يسعى إلى إذابة الدين في عباءة السلطة الجائرة، ليجعل من الشريعة أداة بيد الحاكم، لا ميزانًا للفصل بين الحق والباطل. فجاء رفض الإمام الحسين (عليه السلام) للبيعة ليؤسس أول معارضة شرعية للسلطة المنحرفة، ويضع حدًا فاصلاً بين قداسة الدين ونزوات السياسة. وقد عبّر (عليه السلام) عن نهجه بقوله الشريف: «إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام..» (بحار الأنوار للمجلسي).

لقد خطّ الإمام الحسين (عليه السلام) بذلك مسارًا يفصل بين سلطان الدين الأصيل وسطوة الحكام المنحرفين، ليبقى الدين معيارًا يُحتكم إليه لا أداةً بيد السلطة.

خامسًا: مشروع تغيير بعيد المدى لا انتصار سريع

كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدرك أن نهضته لن تسقط يزيد أو تغير واقع الأمة دفعة واحدة، بل كان يزرع بذرة حراك طويل الأمد يتجاوز حدود الزمن والمكان. لقد كان خروجه (عليه السلام) بداية لمسار جديد في تاريخ الأمة، ظهرت ثماره فيما بعد، وبلغت ذروتها بزوال الدولة الأموية. لم تكن عاشوراء مجرد واقعة عابرة، بل كانت انطلاقة لتحول عميق في وعي الأمة ومسيرتها، ورسّخت مبدأ الرفض والصمود أمام كل طاغية عبر العصور.

سادسًا: تأمين بقاء الإسلام المحمدي الأصيل

لقد تمثلت رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) الكبرى في مواجهة الأمويين بالحفاظ على جوهر الإسلام المحمدي الأصيل، وصيانته من التحريف والانزلاق إلى إسلام سلطاني خالٍ من الروح والمبادئ. فكان موقفه (عليه السلام) حِصنًا منيعا، رسم به خطًا فاصلًا بين الإسلام الذي أراده النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) دينًا للعدالة والكرامة، وبين الإسلام الذي أرادت السلطة الأموية أن تجعله غطاءً للملك والجبروت. وهكذا بقيت نهضته المباركة ضامنًا لبقاء الرسالة المحمدية حيّة نابضة بالحق إلى يوم الدين.

دلالات الموقف في نصوص الإمام الحسين (عليه السلام) ويزيد بن معاوية

لقد جاءت كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) واضحة في بيان أن رفضه لم يكن نزاعًا شخصيًا، بل موقفًا مبدئيًا من نظام سياسي وديني منحرف. فقد صرّح (عليه السلام) في أكثر من موضع بجوهر نهضته وأهدافها السامية، إذ قال: «إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)…» (تحف العقول لابن شعبة الحراني).

وبيّن (عليه السلام) مبدأ الرفض في قوله الخالد: «مثلي لا يبايع مثله.» (الاحتجاج للطبرسي).

ومن جهة أخرى، أظهر يزيد بن معاوية (لعنه الله) حقيقة توجهه بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ قال مستهزئًا بوحي السماء: «لَعِبَتْ هاشمٌ بالمُلكِ، فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل.» (تاريخ الطبري).

وعكس نهجه الاستبدادي في قوله: «أحبّ إلينا من استقام لنا، وإن كان عبدًا حبشيًا.» (العقد الفريد).

فبينما أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) نهضته مشروعًا للإصلاح وصيانةً للدين من التزييف، كشف يزيد عن استخفافه بالوحي واستبداده بالسلطة، ليظهر الفارق الجوهري بين خط الإمامة الإلهي، وخط الحكم الأموي.

تحليل سياسي لقرار قتل الإمام الحسين (عليه السلام)

بعد أن رفض الإمام الحسين (عليه السلام) بيعة يزيد بن معاوية ووقف بوجه المشروع الأموي بكلمة الحق والموقف الرسالي، وجدت السلطة نفسها أمام مأزق سياسي خطير: كيف تتعامل مع رمز ديني بحجم الحسين (عليه السلام)، وهو السبط الطاهر الذي يُمثّل الامتداد الشرعي والروحي للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ؟

أولًا: الحسين (عليه السلام) خطر على شرعية يزيد
لقد كان مجرد وجود الإمام الحسين (عليه السلام) في الأمة تهديدًا دائمًا لشرعية يزيد؛ فهو سبط النبي (صلى الله عليه وآله)، وصوت السماء في الأرض، والمعيار الذي تقاس به العدالة والحق. لم يكن بإمكان يزيد أن يحكم ويستقر وضمير الأمة يذكّرها دومًا بالحسين (عليه السلام) وموقعه في كل خطبة ومنبر.

ثانيًا: يزيد أراد البيعة لا الشرعية
كان يزيد بحاجة إلى بيعة الإمام الحسين (عليه السلام) ليمنح حكمه غطاءً دينيًا واجتماعيًا أمام الناس. لم يكن يبحث عن الشرعية الحقيقية، بل عن “توقيع” يُرغم به الأمة على الطاعة والانقياد. وحين رفض الإمام البيعة، تحوّل الصراع إلى معركة وجود لا تقبل التسوية: إما الحسين (عليه السلام) أو يزيد.

ثالثًا: الحسين (عليه السلام) كان يُلهم الناس الرفض للطغيان
كان الإمام الحسين (عليه السلام) يمثل أمل الأمة في الإصلاح وصوتًا حرًا يُوقظ الضمير الشعبي. أدرك يزيد أن بقاء الحسين (عليه السلام) يشكل خطرًا متناميًا يُحرّك الشعوب ويهدد سلطته، فاختار أن يقضي عليه قبل أن تتحول كلمته إلى نهضة شاملة.

رابعًا: رسالة سياسية بدم الحسين (عليه السلام)
أراد يزيد أن يجعل من كربلاء رسالة رعب إلى الأمة بأسرها: “كل من يعترض على الملك فمصيره كمصير الحسين.” إلا أنه أخطأ الحساب؛ فقد أصبح دم الحسين (عليه السلام) وقودًا لثورات لا تخبو، وصار رمزه مصدر إلهام لكل الأحرار.

خامسًا: يزيد لا يرى الدين بل السلطة
لم يكن يزيد ينظر إلى الإسلام إلا كوسيلة لتعزيز سلطته والبقاء على العرش، فكان من الطبيعي أن يرى في الحسين (عليه السلام) عقبة لا بد من إزالتها مهما كان الثمن.

لقد كشف قرار قتل الإمام الحسين (عليه السلام) عن هشاشة السلطة الأموية وبعدها التام عن القيم الدينية والإنسانية، ورسّخ في وجدان الأمة خطًا فاصلًا بين مشروع الحق الرسالي ومشروع الحكم الاستبدادي.